إنَّ الشخصية التي معنا اليوم في مسيرتنا حول موسوعية الحضارة الإسلامية شخصيةٌ مميزة، تنفرد بملَكات وصفات وعلوم لم تكن موجودة في كل العلماء الذين ذكرناهم عبر المقالات السابقة.
نعيشُ اليوم مع أحد أعلام الحضارة الإسلامية، الذي كان أنموذجًا عجيبًا في رحلته ومسيرته العلمية، ولد في منتصف القرن السادس الهجري ببغداد العاصمة، ثم ظل ينتقل من بلدةٍ إلى أخرىٰ حتى جاء إلى مصر، وكانت المفاجأة التي أبهرتْ الجميع بتلك المواهب التي برزت في علم جديد لم يكن مألوفًا عند أقرانه.
إنه الإمام الكبير «موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي»، وهو عَلَمٌ شهير، من الموسوعيين الذين نبغوا وجمعوا بين العلوم المختلفة، فكان من فلاسفة الإسلام، وأحد العلماء الذين صنفوا في الحكمة وعلم النفس والتاريخ والبلدان والأدب واللغة والطب والنبات والحيوان والحساب ...
وحتى لا يتوهم أحدٌ بأنني أبالغ في قَدر الرجل، فهيا بنا لنرى إنجازاته في الواقع، وما تركه لنا من رصيد علمي، وكيف كانت تتلقاهُ أنظار العلماء وأقلامهم.
ونبدأ بنظرة العلماء والمؤرخين له؛ فالحق ما شهد به العلماءُ.!
فها هو الإمام تاج الدين ابن السبكي يذكره في طبقات الشافعية، ويَعدُّه كواحدٍ من أئمة الفقه الشافعي، ثم يصفه بأنه: «نحوي، لغَوِيّ، مُتَكَلم، طَبِيب، خَبِير بالفلسفة ... وَله تصانيف كَثِيرَة فِي اللُّغَة، والطب، والتاريخ، وَغير ذَلِك».
ووصفه المؤرخ الكبير صلاح الدين الصفدي بأنه «الْفَقِيه، الشَّافِعِي، النَّحْوِيّ، اللّغَوِيّ، الْمُتَكَلّم، الطَّبِيب، الفيلسوف».
ويقول المؤرخ الكبير ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» يقول: «وَكَانَ متميزا فِي النَّحْو، واللغة الْعَرَبيَّة، عَارِفًا بِعلم الْكَلَام، والطب، وَكَانَ قد اعتنى كثيرا بصناعة الطِّبّ لما كَانَ بِدِمَشْق واشتهر بعلمها، وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ جمَاعَة من التلاميذ وَغَيرهم من الْأَطِبَّاء للْقِرَاءَة عَلَيْهِ».
أما عن رصيده المعرفي وإرثه العلمي؛ فهو بفضل الله كثيرٌ ومتنوع.
ولقد أورد ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» قائمة كبيرة بأسماء مؤلفات موفق الدين عبد اللطيف البغدادي تتضمن (172 عنوانا) بين مقالة صغيرة وكتاب كبير، وتتوزع هذه المؤلفات بين العلوم المختلفة.
فذكر له في علم الطب (53 مُؤلَّفًا)، منها: كتاب النخبة وَهُوَ خُلَاصَة الْأَمْرَاض الحادة، وكتاب الْكِفَايَة فِي التشريح، واخْتِصَار كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء لِجَالِينُوسَ، واخْتِصَار كتاب آراء أبقراط وأفلاطون، واخْتِصَار كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِابْنِ وَافد، واخْتِصَار كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِابْنِ سمحون، ومقَالَة فِي البادئ بصناعة الطِّبّ، ومقَالَة فِي شِفَاء الضِّدّ بالضد، ومقَالَة فِي ديابيطس والأدوية النافعة مِنْهُ، ومقَالَة تشْتَمل عل أحد عشر بَابا فِي حَقِيقَة الدَّوَاء والغذاء وَمَعْرِفَة طبقاتها وَكَيْفِيَّة تركيبها، واخْتِصَار كلا من كتاب الحميات والْبَوْل والنبض لإسحاق بن سليمان الإسرائيلي، ...
وذكر له في علم النبات (حَوالَى خمسة مؤلفات)، وهم: اخْتِصَار كتاب النَّبَات لأبي حنيفَة الدينَوَرِي، ومقالة في الراوند، ومقَالَة فِي الْحِنْطَة، ومقَالَة فِي النخل، وانتزاعات من كتاب ديسقوريدس فِي صِفَات الحشائش.
وفي الحيوان ذكر له (حَوالَى أربعة مؤلفات)، وهم: اخْتِصَار كتاب الْحَيَوَان لأرسطو، ومقَالَة فِي السقنقور، وكتاب المدهش فِي أَخْبَار الْحَيَوَان، ومقَالَة فِي ذبح الْحَيَوَان.
وذكر له في علوم البيئة: كتاب اخْتِصَار مَادَّة الْبَقَاء للتميمي.
وذكر له في علم الحساب: كتاب المغني الْجَلِيّ فِي الْحساب الْهِنْدِي.
وذكر له مقَالَة فِي اللُّغَات وَكَيْفِيَّة تولدها.
هذا بشأن علوم الطب والنبات والحيوان والبيئة واللغات الأجنبية، أما عن العلوم الأدبية والفلسفية والدينية فهي أكثر من ذلك بكثير.
فذكر له في اللغة العربية وعلومها (13 مُؤلَّفًا) منها: كتاب الْوَاضِحَة فِي إِعْرَاب الْفَاتِحَة، وكتاب الْألف وَاللَّام، ومَجْمُوع مسَائِل نحوية، وكتاب قوانين البلاغة، وقبسة العجلان فِي النَّحْو، واخْتِصَار كتاب الْعُمْدَة لِابْنِ رَشِيق، وحاشية على كتاب الخصائص لِابْنِ جني، واللمع الكاملية في شرح مقدمة ابْن بابشاذ، وشرح خطب ابن نباتة...
وذكر له في النقد الأدبي (تسعة مؤلفات) منها: كشف الظلامة عَن قدامَة، وكتاب الأنصاف بَين ابْن بري وَابْن الخشاب على المقامات للحريري، ومقَالَة يرد فِيهَا على كتاب عَليّ بن رضوَان الْمصْرِيّ فِي اخْتِلَاف جالينوس وأرسطوطاليس، ...
وذكر له في علم الحديث الشريف عدة مؤلفات مثل: أَحَادِيث مخرجة من الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ، وكتاب اللِّوَاء الْعَزِيز باسم الْملك الْعَزِيز، وكتاب الْمُجَرّد من غَرِيب الحَدِيث، وشرح الحَدِيث المتسلسل، وتَفْسِير حديث الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن، وشرح سبعين حَدِيثا طبية، وثَمَانِيَة النجيب، ...
وذكر له في علم التوحيد (ثلاثة مؤلفات) وهي: رسالة عن الْكَلَام فِي الذَّات وَالصِّفَات الذاتيه الْجَارِيَة على أَلْسِنَة الْمُتَكَلِّمين، ومسألة في قوله تعالى (إِذا اخْرُج يَده لم يكد يَرَاهَا)، ورسالة الْكَلِمَة فِي الربوبية.
وذكر له في المنطق (39 مُؤلَّفًا) منها: الفصول الأربعة المنطقية، ومقالة في الجنس والنوع، ومقالة في القياس، واختصار الثمانية المنطقية للفارابي، ومقالة في النهاية واللا نهاية، وكتاب السماع الطبيعي، وكتاب الحكم العلائية، ...
وذكر له في السياسة والأخلاق (ثمانية مؤلفات)، وهي: العمدة في أصول السياسة، ومقالة في السياسة العملية، والمراقي إلى الغاية الإنسانية، ومقالتان في المدينة الفاضلة، عهد إلى الحكماء، وتهذيب كلام أفلاطون، ومقالة في القدر، وحكم منثورة.
لكن مما يؤسف له أنه لم يصل إلينا (أو لم يتبقى لنا) من هذه المؤلفات الفلسفية سوى ثلاثة أعمال فقط: كتاب ما بعد الطبيعة، ومقالة في الحواس، ومقالة في المسائل الطبيعية.
أما عن علم التاريخ فذكر له ابن أبي أصيبعة (ثلاثة مؤلفات) وهي: كتاب أخبار مصر الْكَبِير، وكتاب التَّارِيخ الذي تناول فيه سيرته ومسيرته، وكتاب الإفادة والاعتبار في الآثار المصرية.
وهكذا نرى أنَّ الموفق عبد اللطيف البغدادي كان موسوعة ضخمة من العلوم والمعارف المتنوعة، التي أضافت للمكتبة العربية وللثقافة الإنسانية إضافات جليلة، تتضح لكل باحث مدقق في هذه الكتب والمجالات التي أشرنا إليها.
ومع ختام الحديث عن هذا الرجل، ما زال هناك سؤال يشغل البال، بخصوص العلم الذي قلنا عنه في افتتاحية الحديث بأن البغدادي قد تميز به ولم يكن مألوفًا عند علماء عصره.!!
وهذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل في المقال القادم بإذن الله.