ما زلنا مع علماء الحضارة الإسلامية الموسوعيين الذين نبغوا في العلوم المتعددة وتفوقوا في المجالات المختلفة، نتجول بين صفحاتهم المشرقة؛ على أمل الاستفادة منهم ومحاولة السير على نهجهم.
والشخصية التي نستأنس بها في هذا المقال، هو أحد أعلام الأندلس في القرن السادس الهجري، وأحد الذين جمعوا ونبغوا في الفقه والفلسفة والعقيدة والمنطق واللغة بجانب علوم الطب والفلك والحساب.
ألا وهو «أبو الوليد محمَّد ابن رُشْد الأندلسي»، المشهور بابن رُشْد «الحَفِيد».
ولقبهُ بالحفيد؛ تمييزًا له عن جده الأكبر «محمد ابن رشد»، والذي كان شيخًا للمالكية في زمانه وقاضي القضاة بقرطبة، وكان كما وصفه الإمام الذهبي «من أوعية العلم»، والحديث عنه يطول.
ولقد شرفنا الله بالحديث عنه وعن حفيده في كتابنا «علماء الوراثة»، وبيان الجينات الوراثية التي أسفرت ولادة عالم من صلب عالم.
إذن هناك ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد، والاثنين كانا من أكبر وأبرز علماء الأندلس.
لكن حديثنا الآن يختص بابن رشد الحفيد، الفقيه القاضي الفيلسوف المتكلم الأصولي النحوي الطبيب الفلكي الموسوعي . . .
أحد الركائز الأساسية التي قامت عليها حضارة الغرب، وكيف لا؟ ومؤلفاته في الفلسفة والطب والطبيعية كانت من المراجع الأصيلة التي لا تخلو منها مكتبة ولا يستغني عنها باحث في بلاد الغرب حتى القرن الثامن عشر الميلادي.
وهو الذي علَّم أوروبا كلها منهجية التفكير العلمي المصبوغ بالمنطق السليم، وبذلك اعترف المستشرق الفرنسي أتيين دينيـه في كتابه (محمد رسول الله ص 343) حيث يقول: «يرجع الفضل إلى الفيلسوف المسلم ابن رشـد، الـذي عاش في الأندلس، القرن الثاني عشر الميلادي، في إدخال حرية الرأي - التي يجب أن لا نخلط بينها وبين الإلحاد - في أوروبا، وتحمّس أحـرار الفكـر في العصر الوسيط الأوربي لشروحه لأرسطو، وكانت هذه الشروح مصبوغة بصبغة إسلامية قوية. ويمكن أن نعتبر بحق أن التيار الفكري الذي نشأ عن هذا التحمس لابن رشد كان أصل التفكير المنطقي الحديث، فضلاً عن كونه من أصول الإصلاح الديني».
هذا الرجل الموسوعي الذي كان علامة فارقة في تاريخ العلم البشري، استطاع أن يجمع بين مجالات مختلفة ومتباعدة، فترك العديد من المؤلفات المختلفة، والتي بلغت كما أحصاها جمال الدين العلوي (108 مؤلفا)، منها 58 بنصها العربي.
ففي الفلسفة له من المؤلفات: تهافت التهافت، وهو رد على كتاب (تهافت الفلاسفة) لأبي حامد الغزالي، وكتاب تفسير ما بعد الطبيعة . . .
وله في المنطق: جوامع سياسة أفلاطون، وخلاصة المنطق، وجوهر الأجرام السماوية. . .
وله في الفقه المقارن: بداية المجتهد ونهاية المقتصد . . .
وله في الأصول: المستصفى، والضروري، وكتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال . . .
وله في النحو: كتاب الضروري (وهو غير الضروري في الأصول) . . .
وله في العقيدة: الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة، وشرح عقيدة الإمام المهدوي . . .
وله كتاب «المسائل» في الحكمة.
وله في السياسة: كتاب الضروري أيضًا (له ثلاثه كتب بهذا الاسم في الأصول والنحو والسياسة) . . .
وله في الطبيعيات كتاب «جوامع كتب أرسطاطاليس»، وتلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة، وتلخيص كتاب القوى الطبيعية لجالينوس
وله كتاب «الحيوان»، ومقالة في القياس الشرطي، ومقالة في اتصال العقل المفارق بالإنسان، إلى غير ذلك من الرسائل والمقالات.
هذا وبجانب نبوغه في العلوم الشرعية والفلسفية، فقد كان بارعًا ونابغًا في الطب إلى درجة كبيرة جدًا، أوصلتهُ إلى أن يكون الطبيب الخاص للخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن خليفة الموحدين.
ويشهد التاريخ أنه لم يكن طبيبًا عاديًا بل كان حجة في الطب، حتى وصفه المؤرخ الكبير «ابن الأبار» في كتاب التكملة «بأنه كان يُفزع إلى فُتيَاهُ في الطب، كما يُفزع إلى فُتيَاهُ في الفقه.
وتشهد له بذلك أيضًا مؤلفاته وآثاره الطبية الذي تركها؛ حيث ألَّـفَ نحو 20 كتابا ورسالة، بعضها تلخيصات لكتب جالينوس، وبعضها مصنفات ذاتية، ولعل من أشهر هذه المؤلفات كتاب «الكليات في الطب»، وهو موسوعة طبية في سبعة مجلدات، شرح فيها وظائف أعضاء الجسم ومنافعها شرحا مفصلا دقيقا، كما شرح فيها الجوانب المتنوعة للطب في التشخيص والمعالجة ومنع انتشار الأوبئة.
وهذا الكتاب مطبوع ومفهرس في سبعة أقسام بخلاف المقدمة على النحو التالي: كتاب تشريح الأعضاء، وكتاب الصحة، وكتاب المرض، وكتاب العلامات، وكتاب الأدوية والأغذية، وكتاب حفظ الصحة، وكتاب شفاء الأمراض.
كما شرح «أرجوزة ابن سينا في الطب»؛ وقد اقترح في شرحه لابن سينا ما يصفه الأطباء الآن، وهو تبديل الهواء في الأمراض الرئوية.
ولما سُئل عن سبب شغفه بالتشريح والطب قال: «مَنْ اشتغل بعلم التشريح والطب ازداد إيمانا بالله».
كذلك قام بتلخيص أول كتاب الأدوية المفردة، وكتاب الحميات وكلاهما لجالينوس، وله مقالة في حميات العفن، ومقالة في نوائب الحمى . . .
كذلك كان ابن رشد نابغًا في علوم الفلك منذ صغره، لدرجة أن الفلكيين الكبار كانوا يلتفون حوله لمعرفة بعض أسرار هذه السماء في وقت الظلام !!
وكان يتفحص سماء المغرب من مدينته مراكش والتي من خلالها قدم للعالم اكتشافات وملاحظات فلكية جديدة، واكتشف نجمًا لم يكتشفه الفلكيون الأوائل.!!
كما أنه وضع ملاحظات حول طبيعة جسم القمر وأنه معتم وغامض، وتختلف أجزاؤه فيما بينها بالسمك، فالأكثر سمكًا كانت تتلقى كميات أكبر من ضوء الشمس خلافًا للأجزاء الأقل سمكًا، كما قدم ملاحظات مهمة حول البقع الشمسية، كل ذلك وهو في الخامسة والعشرين من عمره.
بل ناقش ابن رشد نظريات بطليموس ونقدها ونبذها من أصلها وأبدلها بنماذج جديدة تعطي تفسيرات أفضل لحقيقة الكون، وقدم للعالم تفسيراً جديداً لنظرية رشدية جديدة سميت «اتحاد الكون النموذجي».
وله عدة مؤلفات في هذا المجال مثل: كتاب في حركة الفلك، وكتاب جوهر الأجرام السماوية . . .
وتقديرًا لإسهامات ابن رشد في الفلك، فقد أطلق الغرب اسمه على أحد الكويكبات التي اكتشفت حديثًا.!!
وذلك في 29 سبتمبر 1973م حين تم اكتشاف كويكب بواسطة مجموعة من العلماء «كورنيليس جوهانس، وإنغريد فان هوتين، وتوم جيرليز» في مرصد «بالومار»، فأطلقوا عليه اسم «أفيرويس- 8318»، وهو الاسم الذي كان يعرف به ابن رشد عند الأوربيين «ابن رشد = Averroes».
أما عن إسهاماته في الفيزياء: فيرى مؤرخ العلوم (روث جلاسنر) أن أعمال ابن رشد كانت مهدًا لنظريات وأفكار مبتكرة في الفيزياء، ولا سيما شرحه لنظرية أرسطو المعروفة بـ «الطبيعة الصغرى» (minima naturalia) وكذلك نظرية المواضع المتتالية (forma fluens) لوصف الحركة، واللتان تبناهما العالم الغربي وصارت لهما أهمية كبيرة في تطور الفيزياء ككل.
وكذلك صاغ ابن رشد تعريفًا للقوة على أنها «معدل بذل الشغل الذي يؤثر في حركة الجسم المادي» - وهو تعريف مقارب لمفهوم القدرة في سياق الفيزياء الحديثة.
وهكذا نرى أن (ابن رشد الحفيد) كان عالمًا متبحرًا وموسوعيًا في مختلف الفنون ومشاركًا بقوة في الكثير من ميادين العلم والمعرفة.
وفي هذه رسالة إلى كل شباب أمتنا الراهنة أن يتخذوا من هؤلاء الكبار أسوة حسنة وقدوة عملية للسير في هذه الحياة على مصاعد المجد والتفوق والنبوغ؛ لبناء حضارتنا من جديد واستعادة مكانتنا بين الأمم.