ومن رسائل الكون أيضًا تلك الرسالة التي لو فهمناها لعشنا في سلام وسكينة واطمئنان وراحة.
تلك الرسالة التي نراها بأعيننا في كل عناصر الكون مع كل رمشة عين ولكن لا نتأمل فيها ولا نفهم مقاصدها كما يُراد.
ألا وهي رسالة (الاخـتـلاف والتبـايـن والتمـايـز).
تلك الرسالة التي لمَّا تجاهلناها ظهر ما ظهر فينا من الأمراض النفسية والاكتئاب والإحباط والتوتر العصبي وأمراض القلوب المهلكات.
إنها إحدى أيات الحياة التي تتجلى في كل كبير وصغير، في كل طويل وقصير، في كل وزير وغفير، في كل غني وفقير، في كل عظيم وحقير، في كل قوي وضعيف، في كل ثقيل وخفيف، في كل كثيف ولطيف، في كل أبيض وأسود، في كل أملس وأجعد، في كل رقيق وقاسي، في كل شاهق وداني، .....
إنها الرسالة الأكثر مشاهدة ووجودًا بين الخلق أجميعين.
فالجميع في تمايز واختلاف، في العلوم والأفكار والعقائد والأخلاق والمشاعر والمشارب والعادات والهوايات والأهداف والأسباب...
ولقد أقرَّ الخالقُ العظيمُ تلك الحقيقة ونبَّهنَا لها في كتابه العظيم فقال: ﴿وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ ۞ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَ ٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ﴾ [هود ١١٨ - ١١٩]
بل جعل سبحانه وتعالى هذا الاختلاف بين الخلق آية من الآيات التي ينبغي للمؤمن أن يلتفت لها ويَعي سرَّها، فقال تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ﴾ [الروم ٢٢]
فالله خلقنا لنتمايز ونتباين في كل شيء، ليؤدي هذا التمايز والاختلاف إلى التكامل بين الخلق بعضهم مع بعض، وهذه من رحمة الله بالبشر كما أخبر سبحانه.
وليس هذا في عالم البشر ودنيا الناس فقط، بل في جميع أجناس الكون وأصنافه وأشكاله وألوانه.
انظر إلى عالم الحيوانات، وما لها من اختلاف وتمايز في ألوانها وأشكالها وأحجامها وأصنافها وسلوكها وصفاتها.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَاۤبِّ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ كَذَ ٰلِكَۗ﴾ [فاطر ٢٨]
وانظر إلى عالم النباتات والزهور والثمار والأشجار؛ سترى اختلافًا واضحا وتمايزًا جَليَّا في الملمس والطول والمذاق والفوائد والشكل والحجم ....
قال تعالى: ﴿وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰتࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰحِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ [الرعد ٤]
وقال جل شأنه: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَیۡءࣲ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرࣰا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبࣰّا مُّتَرَاكِبࣰا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانࣱ دَانِیَةࣱ وَجَنَّـٰتࣲ مِّنۡ أَعۡنَابࣲ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهࣰا وَغَیۡرَ مُتَشَـٰبِهٍۗ ٱنظُرُوۤا۟ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦۤ إِذَاۤ أَثۡمَرَ وَیَنۡعِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكُمۡ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنعام ٩٩]
حتى في عالم الجماد، فمن ﴿ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِیضࣱ وَحُمۡرࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهَا وَغَرَابِیبُ سُودࣱ﴾ [فاطر ٢٧]
إنها سنة إلهية كتبها الله على الخلق أجمعين، حتى في عالم الجن، كما أخبر ربنا: ﴿وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَ ٰلِكَۖ كُنَّا طَرَاۤىِٕقَ قِدَدࣰا﴾ [الجن ١١]
من أجل ذلك، ينبغي علينا أن نتفهم تلك السنة الإلهية وألا نعارضها أو نغضب منها أو نتنكر لها، بل الواجب الإيمان والاستسلام واليقين في أرزاق الله وأحكامه.
إنها رسالة الاختلاف التي تنادينا: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡا۟ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ لِّلرِّجَالِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُوا۟ۖ وَلِلنِّسَاۤءِ نَصِیبࣱ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُوا۟ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا﴾ [النساء ٣٢]
ولو تفهم المرء هذه الحقيقة وآمن بها في ثقة ويقين بحكمة الله؛ لعاش في الكون سعيدًا، لا ينظر لِما في يدي غيره، ولا يتلصص لأرزاق الناس.