إذا كان في كل كلامٍ يتردد على ألسنة الخلائق ما يُحبَّذُ بعضه وما يُذمُّ بعضه؛ فإن هناك من أنواع الكلام ما لا يعتريه الذم ولا يقترب منه الفُحش أبدًا، ألا وهي كلمات الذكر لله والثناء عليه جل ثنائه، وكلمات المديح في سيدنا رسول الله ﷺ.
فإنَّ مدح رسول الله ﷺ هو تاجٌ عزيزٌ يَعتَزُّ به كل مَنْ تتوج جَلاله، وحِصنٌ متينٌ يتحصن به كلُّ من احتمى بحماه.
وكيف لا؟ وهو أكرم خلق الله على الله، ورحمة الله للعالمين، ومنقذ البشرية مما قد خيَّم عليها من رجس الجاهلية والغافلين.
وإنَّ القلب ليحزن حين يرى بعض نوابت القسوة والجهل ممن يُحسبون على الإسلام وينتسبون له أن يخرجوا ببعض الفتاوى الآثمة والدعاوى الظالمة التي تُحرِّم على الأمة مديح رسولها والثناء عليه، بحجة فارغة أن ذلك مغالاة، وآخرون يحتجون بأن ذلك لم يرد عن الصحابة معاصري النبوة.
والحق أنَّ هؤلاء وأولئك في جهل فاضح وبُعد تام عن الحقيقة؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى أول من امتدح رسوله ﷺ، لا بمديحٍ تقليدي، بل بأسمى آيات المدح البديعة التي لم نقرأ لها مثيل مع أي نبي آخر ولا رسول.
أقسم سبحانه بحياته ﷺ، وزكى قلبه وعقله وبصره، وناداه بصفة الرسالة، وجعل طاعته ﷺ من طاعته سبحانه وتعالى، وجعل محبته من محبته سبحانه، وقَرَن اسمه ﷺ باسمه جل ثنائه في كل تشهد، ولم يصفه بأنه ذو خلق، بل وصفه بأنه فوق الأخلاق كلها ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ﴾ [القلم ٤]
وهكذا نرى أنَّ أول من امتدحه ﷺ هو رب العزة جل جلاله.
من أجل ذلك رأينا الصحابة الأعلام - رضوان الله عليهم - يتسابقون ويتنافسون في مدح سيدنا رسول ﷺ، حتى ألَّف الإمام أبو الفتح ابن سيد الناس كتابه الرائع (مِنَح المِدَح) أورد فيه ما يقرب من 212 صحابيًّا - رجالا ونساءً- ممن لهجت ألسنتهم برسول الله وغرقت قلوبهم في بحار حب الجناب النبوي الشريف، فراحوا يقرضون الأشعار ويصوغون الكلمات في مدحه والاعتراف بفضله صلوات الله وسلامه عليه.
إذن ليس بدعا حين كتب الإمام البوصيري بردته الخالدة، ولا أجرم شوقي حين قدَّم نهجه، وما قصائد مديح الشعراء والمنشدين والمبتهلين ببعيدة عن منابع الهدي الرشيد.
فانْسُبْ إلى ذاتِهِ ما شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ
وَانْسُبْ إلى قَدْرِهِ ما شِئْتَ منْ عِظَمِ
فإن فضلَ رسولِ اللهِ ليسَ لهُ
حَدٌّ فيُعْرِبَ عنه ناطِقٌ بفَمِ
فهْوَ الذي تَمَّ معناهُ وصُورَتُه
ثمَّ اصطفاهُ حبيباً بارىءُ النَّسمِ
مُنَّزَّهٌ عن شريكٍ في محاسنهِ
فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فيهِ غيرُ مُنْقَسِمَ
دَعْ ما ادَّعَتْهُ النَّصارَى في نَبيِّهِمِ
وَاحكُمْ بما شِئْتَ مَدْحاً فيهِ واحْتَكِمِ
هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ
لِكلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَمِ
دعا إلى اللهِ فالمستمسكونَ بهِ
مستمسكونَ بحبلٍ غيرِ منفصمِ
فاقَ النبيينَ في خلْقٍ وفي خُلُقٍ
ولمْ يدانوهُ في علمٍ ولا كَرَمِ
وكلهمْ من رسول اللهِ ملتمسٌ
غَرْفاً مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ