قبل ربع قرنٍ من الآن جاءتْ رياحين إلى الدُّنيا، وُضِعتْ في ليلةٍ شديدة البرودة، تأملتها القابلة فوجدتها كَلؤلؤةٍ ضيّاءة، قبلتها بينَ عيناها وأعطتها لأُمّها.
سَمَّتْ الأُمّ بالرحمٰن قبلَ أنْ تحملها، وقبّلتها واشتمّتها، ثُمَّ ألقمتها ثديها ليتدفقَ بفِيها الصغير ما قُسِمَ لها من اللبن.
شَعرتْ الرضيعة بمرارةٍ تسري بحلقها إثر إبتلاعها اللبن، هي لا تعي للمرارةِ معنى، لكنَّهُ شعورٌ تكررَ معها بعدَ كُلّ رضعة، لم تَفهم الأُمّ ما يَحدُثُ لرضيعتها الحسناء، فأخبرتْ حماتها بالأمر.
تفكّرتْ الجدّة في أمرِ حفيدتها حتّى توصلتْ إلى السبب، وهو لبن الأُمّ، إندهشتْ الأُمّ من كلامِ حماتها، فكيفَ للأصلِ أنْ يؤذي فرعه؟
أو يُعقلُ أنْ تُرضعَ الأُمّ صغيرتها لبنًا فيهِ سُّمٌ قاتل؟
كيفَ يؤذي صغيرتها وهي لم تتأذى منهُ رُغم حملها له؟!
أسئلةٌ كثيرة دارتْ برأسها، لكنَّ موقفًا بعَينهِ وّضَحَ لها المُبتغى.. في إحدى ليالي الشتاء سَمِعَتْ حماتها تدعو اللَّهَ بعدَ أنْ توضأتْ لقيامِ الليل، وكانَ من بينِ دُعائها "اللهمَّ لا تجعل قلبي مسكنًا للحُزن ولا حلقي مرتعًا لمرارةِ الصّبر، ولا تُذقني الكسر إلَّا لك، ولا تُخزني أمامَ نفسي والعالمين يا أكرمَ الأكرمين".
فَطِنتْ الأُمّ لِمَا يُنّغصُ صغيرتها، فأخذتْ تلهجُ بالدُعاء "اللهمَّ إنَّكَ قد إخترتَ لي ما أنا فيه، وقد قبضتَ زوجي قبلَ أنْ تنفخَ الروحَ في حملي، فكُسِرَ قلبي رغمًا عنّي، فصبرتُ لأجلكَ رَبّي وتحنظلَ حلقي جرّاء صبري، ولم أَكُن أعلم بأنَّ مرارةَ قلبي ستري بحلقِ صغيرتي، وحينَ عَلِمتُ أتيتُ بابكَ فلا تردّني إلَّا مجبورة.. اللهمَّ انظر لقلبي الكسير نظرةَ رضا، اللهمَّ اجعل لبني مُصفًّا لا ضِرارَ منهُ لصغيرتي، واجبرني فيها يا أرحم الراحمين".
تساقطتْ بعض عَبراتها على وجنتي رياحين فتلألأ وجهها الحَسن، وغاصتْ في نومٍ عميقٍ كَحَملٍ وديع.