وُلِدَتْ بيضاء كلبنٍ مُصفّى، بشعرٍ أشدُّ سوادًا من الفحم، أنعمُ من الحرير، شقراءُ الحاجبين، بُنيّةُ العينين مع لمعةٍ ساحرة، فَرِحَ بها الأبوان والأُخوة، سَعِدَت بها أُمّها، أحبّتها الجدّة كثيرًا، وكذا عائشة القابلة.
مَرّت الأيَّام وبلغتْ عامها الثالث.. كانتْ مَرِحَة، ضَحوكة، جميلة المَبسَم، حُلوةُ الجِلسة، مُحِبَّةٌ للحَلوى والشراب الحُلو البارد، بالإضافةِ لعسل النَّحل، واللبن المُحلّى.
حينَ بلغتْ الخامسة زادها اللَّهُ جمالًا فما رأها رآءٍ إلَّا وأشادَ بجمالِ الخالق وحُسنِ صَنعته، عُرِفَت بالنقاء، واشتُهِرَت بالبساطة، وذاعَ صِيتها _بينَ الأهل_ بعفويتها المُبالغ فيها.
أحبّتْ أُمّها كثيرًا وكانتْ تراها القدوة الصالحة التي يجب أنْ تُصبِحَ مِثلها يومًا ما.
لم يَكُن الأبُّ أشدُّ فرحًا من ذي قبل كفرحهِ بها، فكانَ يصطحبها معهُ في زياراتهِ العائلية ليُباهي بها، فيأتي الأقربون بأزواجهم ليَرونها، ثُمَّ يتحسسنَّ شعرها المسدولِ على كتفيها، ويغسلنَّ لها الوجه كاختبارٍ إنْ كانتْ أُمّها قد زيّنتها بمساحيقِ التجميل أم أنَّهُ جمالٌ رَبّاني، وبينَ هذا وذاك غَضِبَ الأبُّ لبُنيّتهِ ذات الستةِ أعوام، فأمرّ زوجهِ بأنْ لا تُصفف لها شعرها عندما يأخذها معهُ حيثُ يذهب، وأنْ لا تغسل وجهها، وأنْ لا تُلبسها البرّاقُ من الثياب؛ فقد عَلِمَ عِلم اليقين أنَّ ابنتهُ تُحسَد من ذوي قُربته، فحينَ تعود من زيارتهم تأبى تناول الطعام، كما تأبى الحديث مع أبيها على وجهِ الخصوص، ومن ثَمَّ تبكي حتّى تُلَّوَن عيناها بلونِ الدّم، وتتساقط أهدابها الطويلة كما تتساقط أوراق الشجر في فصلِ الخريف، تقوم الأُمّ برُقيتها فتهدأ وتنام.
ظَلّت هكذا حتّى بلغت الثامنة وهُنا كانَ كُلُّ مَن يرأها من معارف والدها وغيرهم يستأذنونهُ في خِطبتها ثُمَّ الزواج حينَ تكبُر _كما كانَ سائدًا في ذلك الوقت_ ولكنَّهُ يرفضُ رفضًا قاطعًا.
كانتْ هي بهجةُ البيتِ، وفرحتهِ، وبسمتهِ، وضَحِكتِهِ حتّى ذلك اليوم الذي أحزن عليها مَن يُحِبّونها ويعرفونها!
في إحدى سنواتها الدراسية ودونَ سابقِ إنذار، شَعرتْ بإعياءٍ شديد أفقدها تركيزها وقواها، فاصطحبتها صاحبتها إلى البيت، وما أنْ رأها إخوتها وهي تهوي أرضًا حتّى هرعوا إليها، حملها أحدُهم إلى فراشها، أسرعتْ إليها الأُمّ لتُصدَم من رؤيةِ فتاتها _ذات السبعة عشر ربيعًا_ وقد خارتْ قواها فلا تُحرِّكُ ساكنًا، حملوها إلى الطبيب الذي شَخَصَّ حالتها بهبوطٍ حادٍّ في الدورةِ الدموية، بالإضافةِ لهبوطٍ حادٍّ بالبُطَينِ الأيمنِ من القلب، نَظَرَ الطبيب لأظفارها فرأها تحوّلت من لونها الوردي إلى لونِ الرصاص القاتم، راعهُ المنظر، أسرعَ بتركيبِ كانولا ومن ثَمَّ محاليل وجلوكوز، وضع أخيها الباكي عليها يدهُ على يدها فارتجفت عروقهِ لشدّة برودة أطراف أُختهِ الماثلة بينَ الحياةِ والموت.
ظلَّ الطبيب يُسابقُ الزمن في نجدتها حتّى أنَّهُ أمرها بأنْ لا تستسلمَ لانطباقِ جَفنيها خشية ألَّا تُعاود فُرجتهما ثانيةً؛ فالموتُ أقربُ إليها من ذلك، أطاعتْ أمرهُ ثُمَّ نظرت لأخيها فرأتهُ يذرفُ جمرَ قلبهِ صامتًا فقاومت وقاومت وقاومت حتّى أعانها اللَّهُ، فَرِحَ الطبيب باستجابةِ الجسد للمحاليل ولو نوعًا ما، ووصفَ لها الكثير من الأدوية التي من شأنها رفع كفاءة الدورة الدموية، ثُمَّ نَظَرَ إليها بحُزنٍ وأضاف: إنْ لم تموتي فغدًا اللقاء.. أومأت برأسها وغادرت مع أخيها وكُلّها يقين بأنَّ اللَّهَ لن يفطر عليها قلوبًا أحبّتها.
ظلّت تُقاوم وتأخذ الدواء برعايةِ أُمّها وإخوتها حتّى جاء الغد وذهبت إلى الطبيب بصحبة أخيها مُترجلّةً غير محمولة.. فَرِحَ الطبيب ووصفَ لها دواءًا آخر، ثُمَّ أخبرها بأنَّها وُلِدَتْ من جديد.
مَرّت الأعوام وتبيّنت الحقائق، وهي أنَّ ما أصابها لم يَكُن سوى حِقدٍ وحسد من أحدِهم.. لم تغضب حينَ عَلِمَت ولكنَّها سألت اللَّهُ أنْ يجعل ما لاقت في ميزانِ حسناتها وتكفيرًا لسيئاتها، ثُمَّ استعانت باللَّهِ على المُضي قِدمًا فأعانها فلم تَعُد ترى في الماضي إلَّا خيرًا جاءها على هيئةِ بلاء واللَّهُ يُحِبُّ الصابرين.
لو يَعلمُ الحاسد أنَّهُ يؤذي نفسهُ قبل أنْ يؤذي غيرهُ فما فعل ذاك الفِعل القبيح.
بل لو يَعلمُ بأنَّهُ يكونُ سببًا في رِفعةِ مَن يحسدهُ فما حسدهُ من الأساس.
فالحسد تكفيرٌ للسيئات ورفعٌ للدرجات وعُلّوٌ في المكانات.
ومَن رَضيَ بقضاء اللَّه أرضاهُ اللَّه.