منتصف حزيران...
كان الجوّ معتدلًا كقلبٍ مطمئن، لا رياح تعكر صفو الأفق، ولا غيوم تخدش نقاء السماء. وقفتُ على حافة اللحظة، مستسلمًا لسكونٍ ناعم، والكون من حولي يعزف لحنًا لا يسمعه إلا من تآلف مع الحنين.
في الأفق، تسلّلت ألوان قوس قزح في خفّة شاعر، كأنها تحاول مواساة الأرض بجمالٍ عابر. الأحمر يروي شغف اللقاء، والبرتقالي يبشّر ببدايات ناعمة، والأزرق يهمس بالطمأنينة، والبنفسجي... هو لونها الذي لا يغيب.
نحن لا نفهم سوى العشق...
كان لغتنا الوحيدة، وهويتنا المشتركة. نقرؤه في العيون، ونكتبه على الأرصفة، ونحمله كنقشٍ سريّ في القلب.
كنتُ أتابع انسياب الألوان، أغرق في تأمل تلك اللوحة السماوية التي تشبه قصة حب بدأت دون وعد، لكنها امتلأت بكل الدهشة. فجأة، ربتت على كتفي يدٌ أعرفها أكثر مما أعرف نفسي.
صديقتي. رفيقة الطفولة. حبيبتي.
اقتربت من أذني، وهمست بصوت خافت يشبه الموسيقى:
"أنا أعشقك، يا مجنون..."
ذاك الصوت لم يكن مجرد همس، بل انسكب في روحي كأنّه دعاء قديم، وتلاشى فجأة، لكن صداه ظلّ يتردد في داخلي كأنّه أبى أن يغادرني.
راودتني رغبة عارمة أن أنظر إليها، أن أُقابل ملامح وجهها المستدير الذي يُشرق بابتسامة شعرية تضيء حياتي وتُجمّل تفاصيلها. أغمضتُ عيني لحظة، استحضارًا لروعتها، وعندما فتحتهما...
لم أجدها.
لم يكن هناك أحد.
لا يد، لا همس، لا ظلّ...
فقط صدى صوتها يطفو في الهواء، كأنّه بقايا حلمٍ رفض أن يصحو.
هل كنت أحلم؟
أم أنّني اختلقت واقعًا من الذاكرة؟
هل كنت أعيش لحظة بين الحنين والخيال؟
ربما... وربما كانت تلك اللحظة، بكل ما فيها، أصدق من الواقع نفسه.
عندها فهمت...
الحبّ لا يسكن الأشخاص وحدهم، بل يسكن اللحظات.
بعض من نحبّهم لا يعودون، لكنهم يبقون في الطقس، في الضوء، في قوس قزح يظهر كلما احتجنا لابتسامة من الغيب.
كانت هي كل الفصول،
وكان حزيران أوضحها.