" بنتك هتموت مش هتلحق تكبر ولو كبرت أكيد هتتجنن" كانت تلك الكلمات لا تفارق ذهن الأم لحظة واحدة وتنتظرها بين لحظة و أخرى بعدما ألقاها عليها أحدهم كالقنبلة لما رآه من الصغيرة ذات الثلاث سنوات من ذكاء حاد و ذاكرة حديدية و حركة مفرطة مصحوبة بتهور بالغ وكأنها لا تستشعر الخطر.
رغم أن الأم كانت مديرا لادارة الموازنة والتكاليف بأحد شركات الملاحة المعروفة بالإسكندرية بعد تخرجها من كلية التجارة رغم التوقف لسنوات والتعثر أحيانا بسبب الزواج والأولاد إلا أنها تعتقد أنها اكتسبت كثير من خصالها الذهنية من الأب الذي كان دائم السفر وكان يدرس القانون بالفرنسية لطلبة كلية الحقوق التي لم يلتحق بها يوما وعندما يعود لا يدخل عامل المنزل فهو بدرجة خبير في الزراعة والنجارة والحدادة والسباكة والبناء وغيرها الكثير . والمنزل يمتلئ بالقواميس وكتب متخصصة جدا عن كل الحرف ومعدات فائقة الجودة تخص كل حرفة وتكعيبات العنب ومعلقات اللوف وانواع الاشجار المثمرة تملأ المنزل بالاسكندرية ولايخلو من منضدة متقنة من صنع يديه رغم تخصصه في تدريس مادة الجغرافيا. وقد صنع يوما مذياعه الشخصي من قطع خشبية واسلاك وباقي القطع جمعها من هنا وهناك ليستمع إلى نتيجة الثانوية العامة بين النخلات الباسقات في بلدته على بوابة الصعيد الشمالية. أو ربما اكتسبت جزء من مهارة جدها لأمها الذي كان يرى في تدريس مادة التاريخ
رسالة سامية ومع ذلك كان يرسم خريطة العالم ببلدانها ومنحنياتها و حدودها في اقل من دقيقة دون الحاجة إلى النظر لما يفعل وكانت مكتبته زاخرة بالنفائس المتاحة لكل من طلب المعرفة
في احدى رحلات الأسرة إلى القاهرة زاروا فيها جميع المتاحف واختتم اليوم المرهق بجلسة هادئة بجوار الأجداد عند سفح الهرم الأكبر فالمكان آمن وبه متسع كاف للعب واللهو. وقبل أن تفرد الأم مفرشا نظيفا للجلوس وتناول الطعام وجدت الصغيرة قد اختفت ظل الجميع يهرولون بحثا هنا وهناك حتى سمعوا صوت ضحكاتها وهي تقول :" انا هنا " نظروا فإذا بها قد تسلقت عدة أحجار من الهرم حتى لم تعد تُميز بوضوح بحجمها الصغير الذي أصبح الآن متناهيا في الصغر وسط الحجارة الضخمة التي يصل وزن أحدها إلى ١٥ طن.
علمت الأم أنها اللحظة المريرة التي أُخبرت عنها و كتمتها في نفسها وضعت يديها على عينين تملؤهما الدموع فلن يستطيع أحد الوصول اليها في الوقت المناسب. رأت الطفلة أمها و أحست بألمها فلم تستمع لكل التوسلات التي ترجتها أن تقف مكانها ولا تحاول أن تتحرك ولكنها اصرت على النزول بنفس الطريقة التي صعدت بها. بالتأكيد هي اللحظة التي كانت الأم تريد أن تتجاهلها و تنساها ومع كل ثقب صغير في الحجارة كانت تضع يديها و قدميها الصغيرتين به كانت القلوب تتوقف والبصر يشخص والانفاس تنقطع ولا تعود حتى قفزت في حضن امها " انا جيييت ما تخافيش" احتضنتها الام حضنا مؤلما بحنان عقابي كانت لأول مرة تسمع صوت ضربات قلب أمها يتسابق مع أنفاسها ودموع عينيها.
" يلا نروح اليوم باظ " لايهم من قال العبارة لكنها ظلت تبكي و تعد الا تتحرك حتى اكتمل اليوم ومر بسلام وأقفلوا عائدين إلى الإسكندرية بعد أن وعدت الأم أن تكون هذه آخر مرة لكن طبيعتها كانت كثيرا ما تتغلب على هذا الوعد.
في الإسكندرية الاحداث الأهم.
وللقصة بقية إن شاء الله إن كان في العمر بقية