كان لي زميل دراسة في كلية الطب وكان يكبرني بعشرين سنة وهبط علينا في السنة النهائية قادما من السجن
...وذلك لكونه عضوا نشيطا في حزب التجمع المصري الذي كان يرأسه خالد محي الدين من رجال ثورة ١٩٥٢
...وهذا الزميل كان عاشقا للاشتراكية وخاصة الاشتراكية الشيوعية ...وكل فترة يحل ضيفا علي السجن ...ثم يخرج مستئنفا دراسته بالكلية ..وهكذا
...ومن الطريف انه كان لديه ابنا احيانا يأتي معه في الثانية عشرة من عمره
....ويأمره (سلّم علي عمو) مما يضفي علينا البسمة والابتهاج
....
كان زميلنا يحكي عن سجنه وعن المعاملة وتنوعها حسب المركز والمال والعائلة
...كان يشبه في جسمه وملامحه الي الممثل نبيل الحلفاوي
....
وتخرجنا وفي سكن اطباء الامتياز كنا نؤدي صلواتنا في مسجد المستشفي بقصر العيني
او في السكن احيانا ....ولاحظنا ان زميلنا لا يشاركنا الصلاة ....بل وكان يطلق علي كل واحد فينا لقب الشيخ فلان او الشيخ علان استخفافا وعدم اقتناع
...
وعبثا حاولنا نصحه بالصلاة
ولما اقتربت سنة الامتياز من نهايتها وكنا حول مريض بقسم الباطنة يشرح لنا استاذ القسم تفاصيل المرض ....وهمست باذن الزميل ممرضة قادمة
....فاذ به يصرخ بجنون ويهرول خارج القسم فقد داهمت ولده سيارة مسرعة ونقلوه للمستشفي
....
وعلمنا من كثرة ترددنا علي زيارة ولده ان ابنه الوحيد لديه ولم تنجب زوجته بعده لمرض اصابها
.....
وشاءت الاقدار ان يتوفي الابن
....ورأينا زميلنا تائها عما حوله
فقد كان الولد كل دنياه وامانيه وطموحاته القادمة
...وكان يهذي بكلمات اعتراض واستنكار لتصاريف القدر لولده دون الاطفال الاخري
....وكأنما كان هذا الزميل بمثابة برميلا مغلقا علي كراهية اي دين واي عقيدة
...باختصار كان ملحدا مقتنعا بألحاده
....
وانطوي ولم يستجب لكل محاولات المواساة من اسرته او اقاربه او اصدقائه حتي من بعض رجال الدين
...كأنما الموت استباح حريته واحساسه بالوجود الذي يعشقه
وكره ما تراه عينه وعقد خصاما مع القدر !
....
وتصادف ان امام مستشفي قصر العيني بالقاهرة كان شابا ازهريا نابها وحكونا بالمسجد قصة الزميل ...فتطوع واصطحبناه اليه
....
لم ينطق الشيخ بكلمة وعظ واحدة ولا كلمة مواساة
بل سأله ...تريد ان تري ابنك ؟!
ورد الزميل....ولو ساعة واحدة ثم اموت معه!
...
قال الشيخ ان ابنك في الجنة ومحجوزة له مائة في المائة
...واذ بنا نري الدموع تنهار من عينيه التي ابت ان تنزل حتي عند وفاة ابنه
وسأله الشيخ عن الحمام واخذ بيده ليتوضأ ....وقال له ادعو الله في كل صلواتك ان يجمعك به
وطالت لحية الزميل وظل هادئا رحبا جميلا متواضعا يجوب المساجد الي ان توفاه الله