تربية الأبناء في زماننا هذا تبدو مهمةً صعبة، ولا أقول مستحيلة. ولِمَ أقول صعبة؟ لأنها حقًّا كذلك؛ فالواقع أصبح مخيفًا إلى حدٍّ كبير، وكأن جميع العوامل تكاتفت لتجعل من مهمة الأسرة في إخراج جيلٍ صالحٍ لقيادة المستقبل أمرًا شاقًا. ومع انتشار وتعدد مصادر المعلومات، واختلاط الحابل بالنابل، والصالح بالطالح، يزداد الأمر تعقيدًا.
فكيف لنا أن نُحجِم الخطر المحدق بأولادنا من خلال الهاتف الذكي، والإعلام المرئي، وتضاؤل دور المدرسة، وانحسار دور دُور العبادة؟ سؤال يبدو صعبًا، وإجابته ليست سهلة على الإطلاق. لذلك عليك أن تقرأ كلماتي بقلبك قبل عقلك، وبروحك قبل عينيك.
أولًا وثانيًا وأخيرًا تذكروا دائمًا أن الأبناء لا يسمعون ما نقوله، بل يرون ما نفعله.
لذلك فنحن كآباء وأمهات يجب علينا أن ندرك أننا لا نُربي أبناءنا بالكلمات، بل بما يرونه فينا.
الطفل لا يتعلّم من نصائحنا بقدر ما يتشرّب من أفعالنا، ولا يسمعنا بآذانه بقدر ما يرانا بعينيه. إن التربية الحقيقية تبدأ حين نصبح نحن النموذج الذي نريده فيهم، لا حين نُغرقهم بالأوامر والتوجيهات.
لا فائدة أن نخبر أبناءنا أن يكونوا أمناء، وهم يروننا نتغاضى عن الأمانة في أبسط المواقف.
ولا معنى لأن نحاضرهم عن الصدق، ونحن نكذب أمامهم ليل نهار، حتى في أتفه التفاصيل.
كيف نطلب منهم أن يغضّوا أبصارهم عن الحرام، وهم يروننا نغضّ الطرف عن ضمائرنا قبل أبصارنا؟
وكيف نحذّرهم من التدخين، وأيدينا ترتجف بحثًا عن سيجارةٍ جديدة؟
إنهم لا يسمعون ما نقول، بل يرون ما نفعل.
القدوة هي المعلم الأول، وهي التي تترك في أرواحهم آثارًا أعمق من ألف درسٍ وموعظة.
الطفل لا ينسى ما رآه في عيون والده حين ظلم أحدهم، ولا ينسى دمعة أمه وهي تدعو على من أساء إليها.
تلك التفاصيل الصغيرة التي نراها عادية، هي التي تصنع فيهم الوعي، وتُكوّن ضمائرهم.
كنتُ قد قرأتُ قولًا أعجبني، وهو قولُ أحد الحكماء وهو يربي ولده:
«انظر يا بُني أين تضع خُطاك».
فأجابه الولد بذكاءٍ عفويٍّ:
«بل انظر أنت يا أبي أين تضع خُطاك، فأنا على خُطاك أسير».
ما أصدقها من عبارة!
فالأبناء يسيرون على أثرنا دون وعي، يقلّدوننا في الكلام، في ردود الأفعال، في طريقة الغضب، وفي أسلوب العطاء.
فإذا كنا نرتكب الأخطاء ثم نطلب منهم الكمال، فنحن نحفر في قلوبهم التناقض والتمرّد.
وكتجربةٍ شخصية من واقع حياتي، فأنا كثيرًا ما أنتقد بعض السلوكيات من أولادي؛ فأنهَرهم حينًا، وأوبّخهم حينًا آخر، أنصحهم مرةً وأعاقبهم أخرى. ولكنني، وحين أهدأ، أتذكّر أنني كنتُ مثلهم، أفعل فعلهم، بل ربما رأوني أفعل ما أنهاهم عنه، فألتمس لهم بعض العذر. حتى أنني أجد في كلّ ابنٍ من أبنائي إحدى صفاتي على مدار سنوات عمري؛ منها ما تغيّر مع الزمن، ومنها ما ظلّ راسخًا لا يتغيّر.
كما أن اختلاف الأزمنة يحتاج إلى مرونة في التعامل، فما كان يصلح سابقًا بلا شك لا يصلح الآن.
لقد صار زماننا صعبًا، تتكاثر فيه المغريات، وتُغري فيه الشاشات الصغيرة قبل أن تنطق الكلمات.
في زمنٍ تُعيد فيه وسائل التواصل تشكيل الوعي والسلوك، صار من العسير أن نحمي أبناءنا بالنصح وحده.
إننا بحاجةٍ لأن نصبح الحصن الذي يلوذون به، لا الجدار الذي يهربون منه.
فلنكن نحن الرسالة التي يقرأونها كل يوم،
ولنكن نحن الدرس الذي لا يُنسى،
ولنكن النور الذي يرشدهم إن أظلمت الطرق أمامهم.
فالتربية ليست تعليمًا، بل حياة.
وليست كلماتٍ تُقال، بل مواقف تُرى، وأفعال لا تُنسى.
وما نغرسه فيهم اليوم من قدوةٍ صالحة، سيعود إلينا غدًا سلوكًا نراه في أحفادنا.
تذكّر دومًا:
قبل أن تقول لابنك «كن صالحًا»، انظر إلى نفسك أولًا، وانظر أين تضع خُطاك، فإن وجدت نفسك قدوةً صالحةً ونموذجًا يستحق أن يُقلَّد، فقد نجحت.





































