في ركنٍ بعيد وبمكانٍ قصي، بعيدًا عن الضوضاء والضجيج وعلى العشب المنتشر بالمكان مائدة صغيرة جلس عليها رجلان، يبدو عليهما الوقار وقد خطَّ الشيب فوديهما.
كانا يرتشفان قهوتهما بنهمٍ وهما يتأملان المكان من حولهما، حيثُ تحيط بهما الأشجار من كل مكان، ومن بعيدٍ يلوح سور يحيط بالمكان من جميع الجهات ومن كل جوانبه بسياج مُغطَّى بالأشجار الكثيفة.
تحدَّث أحدهما قائلًا بنبرة حادة وبغضب يبدو من لهجته المتهكمة:
- متى سيدركون قيمة ما نفعله؟ متى يحدث ذلك؟
- هل سنظل هكذا إلى ما لا نهاية بلا ثمن؟
ردَّ عليه الآخر بهدوء قائلًا: دَعك من كل هذا الآن، وحدِّثني عن اكتشافك الأخير، كلي شغف لمعرفة آخر ما توصَّلت إليه بأبحاثك.
ردَّ الرجل قائلًا بثقة وفخر:
- ببساطة يا صديقي، ما توصَّلت له سيُحدِث طفرةً هائلةً بالعالم كله، وسيصل مداه حتى أطراف المعمورة، ولن يقف صداه علينا نحن فقط هنا.
ردَّ عليه صديقه قائلًا بشغف وحماس: لقد استطعت أن تُثير رغبتي بمعرفة هذا الكشف العلمي المثير.
عاد الرجل للوراء وهو يقول بثقة: لقد توصَّلت بأبحاثي الأخيرة إلى تلك الثغرة بآلة الزمن، والتي كانت عبارة عن الشفرة الناقصة بكل الأبحاث السابقة، والتي حاول فيها علماء كثيرون من قبلي التنقُّل عبر الزمن وكسر قانون الجاذبية، وفشلوا بذلك فشلًا ذريعًا.
ردَّ صديقه قائلًا بانفعال واضح قد بدا جليًّا بنبرة صوته: هل تتحدَّث جديًّا؟
ردَّ الرجل بزهوٍ وثقة وهو يقول:
- ليس هذا فحسب، ولكن -وبلا فخر- باختراعي هذا لن يكون السفر عبر الزمن فقط، ولكن سيكون عبر الزمان والمكان.
استطرد يقول ببساطة: يا صديقي، لن تُمثِّل المسافة والوقت عائقًا بعد الآن.
أخذ رشفةً من فنجان قهوته قبل أن يتطلَّع بهدوء لصديقه متسائلًا:
- ولكن أنت أيضًا لم تخبرني حتى الآن عن أبحاثك وما توصَّلت له؟
ردَّ صديقه قائلًا بهدوء مُفعَم بالأمل وهو يتنهَّد قائلًا:
- أبحاثي يا صديقي تتعلَّق بالجوانب الإنسانية البحتة.
أردف قائلًا: تعلم كما يعلم الجميع أنَّ المشاعر الإنسانية يصعب السيطرة عليها أو توقُّع ردود الأفعال المتعلقة بها، فهناك مَن يتعرَّضون لأزمات نفسية وعصبية ولا يستطيعون تجاوزها بحياتهم، وتُؤثِّر عليهم مدى الحياة كضحايا الحروب الحمقاء المدمرة ومَن تعرَّضوا للخيانة والخذلان هنا، ولمثل هؤلاء تأتي أهمية أبحاثي؟
الرجل متسائلًا بدهشة: ولكن كيف هذا وهي -كما ذكرت- مشاعر إنسانية بحتة؟
صديقه وهو ينظر بعينيه مباشرةً وبابتسامة واثقة:
- وهنا بالضبط تكمن أهمية أبحاثي، لقد أسميت اكتشافي العظيم والمؤثر )خوذة النسيان) وهي عبارة عن خوذة خفيفة مصنوعة من السيليكون مزوَّدة بذبذبات وجزيئات تمَّت برمجتها للعمل على فص المخ الخاص بالذاكرة، تمامًا كذاكرة الهاتف تستطيع أن تمحو منها ما تشاء، وعن طريق هذه الخوذة سنستطيع محو كل ما هو سيء ومؤلم بحياة البشر.
سنمحو الوجع والحزن من الذاكرة، سنزيل السلبيات وسنترك فقط الأحداث الإيجابية والسعيدة؛ ليستطيع الإنسان أن يواصل حياته بلا أي ألم أو وجع.
صفق الرجل بكلتا يديه وهو يقول:
- رائع وجميل! كم أنت رائع يا صديقي! نحتاج لهذا حقًّا بحياتنا البائسة هذه.
على بُعد ياردات ليست بالقليلة كان يسير رجلان يرتدي أحدهما رداء الأطباء والرجل الآخر يسأله بتعجب: وماذا عن هؤلاء؟!
قال هذا وهو يُشير للرجلين الجالسين يرتشفان قهوتهما وهما يتجاذبان أطراف الحديث.
الطبيب بدهشة وذهول: هل من المعقول ألَّا تعرفهما حقًّا؟!
الرجل: وهل من المفترض أن أعرفهما؟ هل هما فنانان معروفان أو كانا لاعبي كرة مشهورين؟
الطبيب: لا يا صديقي، وهل يجب أن تقتصر معرفتنا بهؤلاء فقط؟
أردف قائلًا: إنهم يا صديقي، حديث الصُّحف الأوروبية والعالمية منذُ عدة شهور.
أتبع عبارته وهو يُشير لأحدهم قائلًا:
- هل ترى ذلك الرجل الجالس على اليمين، إنَّه العالم الكبير جلال العربي، وله أبحاث لا تُعَد ولا تحصى بالفيزياء، كما أنه مؤلف لكم هائل من النشرات العلمية ذات المستوى الرفيع، والتي تُدرَّس بجميع أنحاء العالم، وقد أنفق ثروة عائلته الثرية كلها على الأبحاث والتجارب العلمية.
استطرد قائلًا: لقد حاولت كُبريات الجامعات والشركات العالمية إقناعه بالعمل معها، ولكنه رفض وأصرَّ أن يكون اكتشافه مصريًّا وعربيًّا خالصًا.
قبل أن يأتي هُنا ظلَّ يُردِّد أنه قاب قوسين أو أدني من إنهاء مشروع عُمره، وهو آلة السفر عبر الزمن متخطيًا المسافة والمكان، ولكن -وكما أخبرتك- فثروته قد نفدت حتى آخر قرش، وعندما توجَّه للدولة والبحث العلمي؛ لينفقوا على ما تبقى من أبحاثه رفضوا بحُجَّة ارتفاع المصاريف وقلة الميزانية، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل اتهموه بالجنون والخبَل؛ ممَّا جعله يُصاب باليأس والإحباط، فالتزم الصمت من يومها.
أكمل الطبيب كلامه قائلًا: أمَّا ذلك الجالس من جهة اليسار فهو البروفيسور العالمي الدكتور محمد المصري، وهو من أفضل علماء النفس والبحث العلمي على مستوى العالم، كما أنه محاضر دولي ومكانته العلمية لا يختلف عليها اثنان، ولكن للأسف كل هذا لم يشفع له عند زوجته، والتي كان يعشقها كأبحاثه وكتبه فأحبها كما لم يحب أحدًا، كان وفيًّا لها ومخلصًا بل وعاشقًا لها حد الجنون.
تنهَّد بزفرة ألم وهو يقول بأسى: كل هذا لم يشفع له عندها.
للأسف تركته زوجته وأحبَّت ضابطًا، بينما كانت على ذمته لم يعجبها هذا العالِم بعلمه ونبوغه وهدوئه، واختارت ذلك الضابط بعنفوانه وقوته.
وعندما علِمَ بهذه العلاقة حاول أن يتصدَّى له، وأن يُعيدها إليه بكل السُّبل المشروعة، ولكنها أبَت ذلك وتمرَّدت.
وعندما أراد أن يكشف هذه العلاقة الآثمة بينهما، كان نفوذ الضابط وسطوته أكبر وأقوى من أن يواجههما بعلمه وهدوئه ووقاره.
كانا قد وصلا إلى مائدة العلماء فألقيا عليهما التحية، ولكن يبدو أنَّ العلماء لم يلتفتوا لهم أو يلقوا لهم بالًا وهم يتجاذبون أطراف الحديث بلهفةٍ وشغف.
د/ محمد المصري: ولكن لم تخبرني يا صديقي عندما يكتمل اكتشافك فإلى أين تودُّ الذهاب؟ وإلى أي حِقبة زمنية ستتوجَّه؟
د/ جلال: كم تمنَّيت الذهاب إلى تلك الحِقبة الذهبية والعظيمة من تاريخنا الإسلامي والعربي المجيد، عندما كان للعلم والعلماء قيمة، وحيثُ كُنَّا منارة العالم كله.
أردف قائلًا: أي مكان لا يُذكِّرني بتلك الوزارات وذلك الروتين القاتل وهؤلاء الجهلة ذوي العقول الفارغة، والذين يملؤون بطونهم وجيوبهم وعقولهم فارغة إلا من الضجيج والثرثرة.
سالت دموعه وهو ينظر إلى السماء: أريد مغادرة هذا المكان حقًّا يا صديقي، أريد أن أستنشق هواءً نقيًّا، أريد مغادرة هذا المكان بأقصى سرعة.
اعتدل الدكتور جلال بجلسته بعد أن مسح تلك الدموع التي بلَّلت لحيته، وهو يتوجَّه ببصره إلى الدكتور محمد المصري قائلًا بحماسٍ وجديَّة:
- وماذا عنك أنت يا صديقي؟ ماذا عن جهازك؟ هل سترتدي خوذة النسيان؟
الدكتور محمد وهو يغالب دموعه: وهل تظن أنني أنفقت حياتي كلها ووهبت عمري لهذا الجهاز ولا أستخدمه؟
- نعم يا صديقي، فهذا الاكتشاف لي ولمَن هم مثلي ضحايا الغدر والخداع والخيانة وأنا أكثر مَن يستحقه، سأستخدمه لأتجاوز كل شيء ولأنسى كل شيء.
دكتور جلال: وماذا تريد أن تنسى يا صديقي؟
دكتور محمد: بل اسألني عمَّا لا أريد نسيانه بهذا العالم الممتلئ بالحماقات والجنون، ولكن ومبدأيًّا يا صديقي أودُّ حقًّا نسيان أننا هنا، وأننا أصبحنا ننتمي لهذا المكان.
من ثَمَّ أشار بإصبعه حيثُ كانت تلك اللوحة المعدنية الضخمة، وقد كُتِب عليها بخط كبير وواضح للعيان (مستشفى الأمراض النفسية والعصبية) وبين قوسين قد كتب ) عنبر الحالات الحَرِجة وشديدة الخطورة).
تمت
آمال محمد صالح احمد
هند حمدي عبد الكريم السيد
ايمان سعد عبد الحليم بسيوني
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































