ما إن تناولت آمال راتبها الشهري الأول حتى سرحت بخيالها بعيدًا، كان شعورها بالرضا والسعادة هو ما يسيطر عليها.
شعورها بالرضا؛ لأنَّها قادرة على بذل الجهد ومحاولة تحقيق ذاتها بعملها كبائعة بمحل ملابس نسائي كبير .
وكان مصدر سعادتها أنها ستُحقِّق اليوم بعض أُمنيات أهلها، ستمرُّ على الصيدلية وتُحضِر علاج والدتها.
لن تنسى شراء ذلك الفستان الذي أعجب أختها جنى ذات يوم، وتوسَّلت لها بأن تشتريه لها.
كذلك سوف تحضر الملخصات لأخيها زياد؛ فهو طالب مجتهد يودُّ حمل العبء عنها ذات يوم.
وستدفع بعض ديونها لدى جيرانها الطيبين.
تحسَّست المال بجيب معطفها الشتوي؛ لتتأكَّد أنه ما زال موجودًا لتحقيق بعض الأحلام.
دمعت عيناها عندما تذكَّرت والدها، ذلك العامل بشركة الغزل والنسيج، والذي تم فصله وتلفيق التُّهَم له؛ لمطالبته بتحسين الأجور له ولزملائه، سوف تزوره بصُحبة المحامي بعد أن تُوفِّر المال لديها؛ لترى ما يمكن فعله.
ظلت آمال تسير على قدميها بطريق عودتها للمنزل، ربما لتوفير ثمن المواصلات ووضعها ببند آخر من مُتطلبات الحياة.
ابتسمت وهي تُطالِع واجهات المحال التجارية، وهي ترى ذلك الصخب والأمواج البشرية من حولها.
لا شكَّ لكلٍّ منهم حياته بما تحمله من أحلام وأمنيات، وما يقابله من خيباتٍ وانكسارات.
تساءلت كثيرًا ولم تجد لأسئلتها أي إجابات:
متى تحوَّل الحق بالحياة إلى حُلم صعب بل وبعيد المنال؟
كيف أصبح الناس طبقتين؛ طبقة فاحشة الثراء وأخرى تحت خط الفقر؟
أين تلك الطبقة المتوسطة والتي كانت تُمثِّل رُمَّانة الميزان وصمام أمان المجتمع؟
كيف تآكلت وانهارت لتتحوَّل إلى تلك الطبقة التي أصبحت تحت خط الفقر؟
ألَا ينذر ذلك بانفجار قادم لا محالة ليصيب الجميع بالضرر؟
أليس ذلك يُشبه قنبلةً موقوتةً منزوعة الفتيل قد تنفجر بأي لحظة لتُصيب الجميع بمقتل؟
أفاقت من شرودها على واجهة ذلك المطعم الشهير، والذي ترى إعلاناته بالتلفزيون وصُوَره بالصُّحف.
تُرى هل من حقها أن تدخله ذات يوم؟
هل تستطيع الدخول إليه ولو لإلقاء نظرة من الداخل؟
لا تدري آمال كيف قادتها أقدامها صوب مدخل المطعم، لتجد ذلك العامل يريد حمل معطفها.
شعرت بالخجل؛ لأن معطفها لا يليق بالمكان وروَّاده.
وفجأة وجدت نفسها بالداخل.
تجوَّلت ببصرها بالمكان، واختارت مائدةً صغيرةً قريبةً من الزجاج المُطل على الشارع.
جلست وتنهَّدت من ثم عادت لتأخذ نفسًا عميقًا غير مُصدِّقة أنها بالداخل، جالت ببصرها تتأمَّل روَّاد المكان وكأنها أصبحت فجأةً ببلدٍ آخر غير الذي تعيش فيه.
عالم آخر غير عالمها..
هنا شعرت بالخوف
فما الذي أتى بها إلى هنا؟
هي لا تنتمي لذلك العالم.
أخذت قرارًا بالمغادرة، وقبل أن تُنفِّذه وجدت النادل أمامها يُقدِّم لها (المنيو)، تظاهرت بمطالعة الوجبات وهي لم تكن مهتمةً سوى بأرخص شيءٍ يمكنها طلبه.
انصرف النادل لتشعر آمال بتلك الإشكالية التي وقعت بها.
وما الذي ورَّطني في ذلك؟
هكذا حدَّثت نفسها وهي تقول بقلق: أقل عصير هنا سيلتهم رُبع راتبي.
بنظره للخارج وجدت سيدةً عجوز ترتدي الملابس البالية، تنظر بالداخل مستجديةً مَن يُقدِّم لها ما يسدُّ جوعها.
نسَت آمال كل الوساوس القهرية التي سيطرت على عقلها وهي تُحدِّق لتلك المرأة، والتي رأت فيها عجزها وعجز والدها وأمها وحُلم إخوتها .
هُنا أقدمت آمال على عمل جنوني لا يقل جنونًا عن دخولها ذلك المطعم الشهير، غادرت المائدة وتقدَّمت نحو المرأة بثبات لتأخذ بيدها وهي تقول:
- هل تشاركينني الطعام؟
المرأة العجوز بذهول وكأنها لا تُصدِّق ما تسمعه: هل تُحدِّثينني أنا؟!
آمال: نعم، فهذه أول تجربة لي بأحد المطاعم، وأريد مَن يشجعني.
المرأة بتردُّد وقلق: ولكن هل سيسمحون لي بالدخول بهذه الملابس البالية؟
آمال: سأحضر لك معطفي لترتديه وسيخفي ما تحته.
دقائق وكانت آمال والمرأة المجهولة أمامها.
تحدَّثت المرأة بتلعثم وهي تقول: تمتلكين قلبًا كبيرًا وضميرًا يقظًا، فأنت أول مَن يشعر بي وسط هذا الكم من البشر .
آمال بخجل: لا تقولي هذا، فنحن نتشارك نفس الحياة ونواجه نفس المصير، ولو خفَّفنا عن بعضنا قدر الإمكان ستصبح الحياة أفضل.
طلبت آمال للمرأة ما يكفيها من طعام، وطلبت لنفسها عصيرًا، فهذا ما يتحمَّله راتبها، ولتؤجل طلبات الأسرة للشهر القادم ما عدا علاج والدتها، فهو الأهم. تخلَّت آمال عن معظم راتبها مقابل لحظة السعادة على وجه المرأة المجهولة، والتي غادرت وهي تدعو لها قبل أن تقول لآمال بصوتٍ هامس:
- تمتلكين قلبًا ذهبيًّا، والقدَر يحب أمثالك.
تعجبت آمال من كلمات المرأة؛ فهي لا تناسب هيئتها وما تبدو عليه.
عندما غادرت آمال المطعم وجدت شخصًا يقف أمام سيارة ليموزين فارهة يدعوها للدخول.
للوهلة الأولى شعرت آمال بالخوف والقلق، والذي تبدَّد برؤيتها للمرأة المجهولة تجلس بالمقعد الأخير، والتي دعَتها للدخول.
بذهول دخلت آمال غير مدركة ما يحدث، فلقد كانت المرأة المجهولة ترتدي أفخم الثياب من أرقى الماركات ورائحة البارفان تفوح منها.
قطعت المرأة هذا الصمت لتقول:
- منذُ ثلاثة عقود مضت كنت أنا مكانكِ وسيدة أخرى مكاني، وقد سلَّمت لي الراية لمكافأة أصحاب القلوب الطيبة والنوايا الصادقة.
والآن آن الآوان لأستريح وأسلِّم الراية لأحد غيري.
آمال وهي تكاد تكون غائبةً عن الوعي:
- حقًّا لم أفهم ماذا تقصدين بهذا؟!
المرأة: كل ما أملكه سيصبح لكِ من الغد، كل الأموال والشركات ستؤول إليكِ. ستكونين المسؤولة عن مكافأة أصحاب القلوب البيضاء.
- ولكن كيف؟ ولماذا؟
السيدة بابتسامة ودودة: لأنكِ تبرعتِ أيضًا بكل ما تمتلكين لإسعاد غيركِ، ومن خلالكِ سيبتسم القدَر لمن يملكون ضمائر حية ونوايا صادقة ..
- سيدتي سيدتي.. أين ذهبتِ؟
كانت هذه كلمات مدير أعمال السيدة آمال، والتي أمرته بالذهاب بعد أن أحضر لها تلك الملابس البالية، لتدخل السيارة الليموزين وتقوم بتبديل ملابسها، لتقول للسائق: انطلق بنا إلى وسط البلد
تمت
من قصص المجموعة القصصية الموت لا يأتي مرة واحدة
آمال محمد صالح احمد
هند حمدي عبد الكريم السيد
ايمان سعد عبد الحليم بسيوني
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































