بالمنتصف تمامًا، وبعشقٍ وحنينٍ جارف وقف يتأمَّل جميع زوايا وجنبات البيت، يحمل بين يديه الكثير من أدوات الزينة من بالونات وأوراق ملونة وورود متعددة الألوان.
شعر ببعض الإرهاق والتعب بينما يقوم بتعليق الزينة بجميع الأماكن التي طالتها يديه.
حدَّث نفسه قائلًا: لا يهم؛ فاليوم هو عيد مولد شذى، ويجب أن يسعدها ويدخل الفرح والسرور لقلبها.
شذى تلك الملاك الرقيق، والتي ستكمل الستة أعوام بهذا اليوم.
تذكَّر عيد مولدها منذُ ثلاثة أعوام عندما تعلَّقت برقبته بحُبٍّ ودلال وهي تُقبِّله بوجهه وجبينه وتقول له:
- لا تنسَ يا أبي هديتي كما وعدتني.
لتكمل بعفوية وببراءة: أريد مثل تلك الدُّمية التي رأيتها عند صديقتي ندى.
تذكَّر وقتها تلك الغُصَّة التي علِقت بحجرته بذلك اليوم؛ لأنه لا يمتك ثمن هذه الدُّمية غالية الثمن؛ ليشتريها لها، ولكنه شعر بسعادة غامرة وبالزهو وهو يلتقط ذلك الصندوق الكبير ويرى تلك الدُّمية وقد استقرت بداخله.
اليوم فقط استطاع أن يحضرها، كيف لا يحضرها لشذى مهما كلَّفه الأمر، من يومها وهو يدَّخر كل قرشٍ يحصل عليه لإحضار هذه الدُّمية؛ ليُحقِّق حُلم شذى بالحصول عليها.
ما زال يتنقل بين جنبات البيت بصعوبة بالغة؛ ليعلق أدوات الزينة، كان يعمل بيديه بينما عقله شارد وروحه عالقة خلف هذه الجدران المهدَّمة التي تحيط به من كل جانب، وركام الغرف تحت أقدامه.
تذكَّر زوجته وضحكتها التي ما زال يتردَّد صوتها بين طرقات البيت؛ ليرتدَّ صداها بأذنيه.
ابتسامتها الرقيقة وصوتها الساحر وشغفها عند عودته للمنزل وهي تعاتبه بكل حُبٍّ عن تأخره لدقائق.
تذكَّر شذى روح هذا البيت وزهرته البرية وملاكه الساحر، كما كانت تحب أن يناديها.
سالت الدموع من مُقلتيه غزيرة وهو يكتب اسمها على البالونات ويُعلِّقها، كان منهمكًا في عمله حتى إنه لم يرَ أو يشعر بتلك العيون التي ترصده وتراقبه من الرصيف المقابل لبيته، وكأنه أصبح بقوقعة خاصة به، أو ربما قد انفصل عن محيطه وواقعه، فلم يعد يسمع أو يرى إلا ما يحيط به.
فلم يعد يرى الرصيف أو الشارع، لم يرَ نظرات الشفقة بعيون الناس، لم يسمع همسهم وهم يضربون كفًّا بكف مُردِّدين بحزن لا حول ولا قوة إلا بالله.
لم يخلُ الأمر من بعض المارة وعابري الطريق الذين نعتوه بالعَتَه والجنون غير مدركين ما يحدث أمامهم ويرونه بأم أعينهم.
كان الأمر بالفعل يبدو كلوحة سريالية تجريدية بالغة الغرابة، فالرجل يُعلِّق أدوات الزينة فوق أنقاض المنزل المتهدِّم بهمَّةٍ ونشاط، بينما هاتفه النقال يبثُّ نغمات أغنية عيد الميلاد، وبالوسط تمامًا صورة كبيرة لطفلة لا يزيد عمرها عن الست سنوات.
همَّ أحدهم أن يذهب ليواسيه ويُحذِّره أنَّ الأمطار على وشك الهطول، وبينما هو بطريقه إذا برجلٍ وقور يعترض طريقه بإصرار وهو يربت على كتفه ويقول:
- دَعه وشأنه يا بُني، فهو الآن ليس معنا أو بيننا، بل لا أبالغ إن قلت إنه لا ينتمي لعالمنا.
أردف قائلًا بنبرة لا تخلو من الوجع: لا تحاول عبثًا يا بُني، فهو لم ولن يسمعك ولن يراك، فقد حاولت قبلك مرتين بآخر عامين، هو سيكمل ما بدأه ولن ينهيه حتى يكمل احتفاله بعيد مولد ابنته، والذي لم يحضره منذُ ثلاثة أعوام.
الرجل بدهشة وتعجب: وأي احتفال بين هذه الأنقاض؟ بل وأين هي ابنته التي يحتفل بمولدها؟
تنهَّد الرجل بأسى وهو يعود بذاكرته للوراء ليقول:
- لعنة الله على الحرب وما خلَّفته من دمارٍ نفسيٍّ يفوق ما تم تدميره من منازل أو مبانٍ.
استطرد قائلًا: أنت غريب عن هذه المنطقة يا بُني، ولكن منذُ ثلاثة أعوام وفي مثل هذا اليوم ذهب جاري هذا ليحضر الزينة وهديةً لابنته ذات الثلاثة أعوام للاحتفال بعيد مولدها، وقبل حضوره بساعات تم قصف منطقتنا ليتهدَّم البيت على مَن بداخله كما تهدَّمت الكثير من البيوت، يومها ماتت زوجته وابنته، ومن يومها يأتي هو كل عام بنفس اليوم ليُعلِّق الزينة ويحضر الهدايا لابنته؛ ليكمل ما فاته بذلك اليوم، وما إن يبزغ الفجر حتى ينهي الاحتفال ويغادر وسط دموعه التي لا تنقطع، ولا يعود إلى هنا أو نراه إلا بنفس اليوم الذي يوافق مولد ابنته وموتها؛ ليفعل ما تراه الآن.
الغريب بدهشة: ولكن لماذا يقسو على نفسه بهذه الطريقة؟
الرجل بحزن وأسى: ما بداخله لا يعلمه إلا الله وحده، وربما هو يلوم نفسه أنه لم يكن معهما وبينهما بذلك اليوم، ربما كان يتمنى أن يموت مثلهما مرة واحدة، بينما هو الآن يموت أكثر من مرة أثناء انتظاره.
تمت
آمال محمد صالح احمد
هند حمدي عبد الكريم السيد
ايمان سعد عبد الحليم بسيوني
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































