حاول جاهدًا فتح جفنيه وما إن فشل في ذلك حتى استسلم للظلام.
لم يمنعه ذلك الظلام من الشعور بالخدر يسري في كامل جسده، فلم يكن بإمكانه تحريك يديه أو حتى قدميه.
مرَّت الثواني عليه ثقيلةً وكأنها دهرًا، وما إن تمكَّن من فتح عينيه حتى سطع ضوء الغرفة بوجهه ليغمضهما مرة أخرى، ويقوم بفتحهما رويدًا رويدًا حتى اتَّضحت له معالم الغرفة.
حانت منه التفاتة على يساره لتقع عيناه على أجمل ابتسامة يمكن رؤيتها بهذا العالم بالنسبة له، لمَ لا وتلك الابتسامة تنبع من شفتَي ابنته فرح ذات السبعة عشر ربيعًا، والتي ترقد على سرير مجاور لسريره وهي تُشبِّك أصابع يديها بأصابعه، تُطالعه في حُبٍّ ولهفة وهي تُردِّد على نحوٍ مستمر:
0إنت كويس.. إنت كويس؟ متسبنيش لوحدي.
ليبتسم لها في حنوٍّ وهو يُردِّد في حُب:
- أنا كويس حبيبتي ومش هسيبك أبدًا.
عاد بذاكرته للوراء سبعة عشر عامًا تقريبًا، وبالتحديد عند طبيب النساء والتوليد، والذي كان يقوم بالكشف الدوري على زوجته وعمل السونار لها بشهرها الخامس؛ للاطمئنان على حملها وصحة الجنين.
لا زال يتذكَّر نظرة الطبيب لهما وهو يتحاشى النظر بأعينهما وهو يقول بأسى:
- إنَّ المولود بخير ويتمتَّع بصحة جيدة، ولكنه..
صمت قليلًا قبل أن يقول: ولكنه يحمل كروموسومًا زائدًا.
من ثَمَّ أوضح لهما أنَّ الطفل سيُولد مُصابًا بمتلازمة داون (طفل منغولي) من ثَمَّ أردف يشرح لهما وقد رأى حيرتهما وعدم فهمهما للأمر، ليقول:
- إنَّ الأجنة المصابة بمتلازمة داون تحمل ثلاث نسخ من الكروموسوم 21 بدلًا من نسختين، فبينما الطفل العادي يحمل نسختين من الكروموسوم (21) يحمل الأطفال المصابون بمتلازمة داون ثلاثة نسخ منه، وهو ما يتسبَّب في ذلك الخلل والتأخُّر الذهني، والذي قد يكون خفيفًا أو متوسطًا؛ ممَّا يؤدي لعدم قدرتهم على التواصل الاجتماعي.
للوهلة الأولى كانت الدهشة هي سيدة الموقف، ليتبادلا النظرات فيما بينهما دون أن ينطقا بحرفٍ واحد.
وما إن زالت دهشته محاولًا استيعاب الأمر حتى حلَّت محلها الصدمة وهو يسمع زوجته تقول بعصبية وانفعال إنها لا تريد إكمال الحمل، وإنها تودُّ إجراء عملية إجهاض قبل الولادة مبررةً ذلك بأنها لا تستطيع التعامل مع الأمر، وأنها لا تحتمل نظرات الشفقة من البعض أو تنمُّر الأطفال مستقبلًا على طفلها.
استطردت تقول بصوتٍ متهدج غلب عليه التوتُّر أنها لا تستطيع أن تُكرِّث حياتها كلها لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي ما زالت بريعان الشباب، لتصمت فجأةً بينما دموعها تنهمر وتنساب على وجنتيها دون توقُّف.
ظلَّ شاردًا يعتصره الألم بينما الطبيب يقول في حزم وحسم: إنه لا يمكنه القيام بذلك الأمر بعد أن أصبح الجنين مكتمل النمو؛ فهذا يخالف الشرع والقانون.
تذكَّر كيف تحوَّلت حياتهما بعد ذلك لجحيم لا يُطاق مع إصرار زوجته على الإجهاض وتمسُّكها بإنهاء الأمر ومحاولاته المستميتة في إقناعها بحُرمة ذلك، وأنها إرادة الله وعليهما القبول بها والرضى بما قسمه الله لهما.
مرة أخرى حانت منه التفاتة نحو فرح من ثم ضغط على أصابعها برفق؛ فقط ليتأكَّد من وجودها بجانبه وليمنحها الأمان، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة تُشبه كثيرًا تلك الابتسامة التي ملأت وجهه عندما وضعت زوجته فرح ليحملها بين يديه ويضمها إلى صدره؛ ليسكن حبها بقلبه من أول نظرة وضمَّة، فكأنما قد زرع الله حبها في روحه؛ ليشعر أنها مِنحة من الله وهدية ربانية يجب أن يحافظ عليها.
أوفى بوعده لزوجته بأن يُطلِّقها مباشرةً بعد وضع الطفلة، وما إن تمَّت الولادة حتى طلَّقها وأعطاها كل حقوقها بعد أن تنازلت هي عن حق رعايتها لطفلتها قبل أن ترضعها حتى رضعة واحدة.
تركت طفلتها دون أن تُلقي عليها ولو نظرة واحدة، وكم تمنَّى لو أنها فعلت! فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ براءة ملامحها وتقاسيم وجهها وتلك الابتسامة الساحرة كانتا كفيلتين بأن تفكر ألف مرة قبل أن تحرم نفسها من هذه النعمة.
تذكَّر كيف تغيَّرت حياته بعد أن تفرَّغ لرعاية فرح، فأنشأ مشروعه الخاص من منزله بعد أن استقال من وظيفته؛ لرعاية فرح.
نظر نحو فرح بحُب وبادلها الابتسام وهو يُحدِّث نفسه قائلًا:
- منذُ دخلت عالمي تبدَّلت حياتي للأفضل، وحلَّت البركة في كل شيء، كيف لا؟ وبدايتي كانت مشروعًا بسيطًا أُديره من المنزل.
تذكَّر كيف كان يقوم بشراء اللحوم الطازجة من ثم تسويقها على صفحات النت مع خدمة التوصيل للمنازل بعد تصنيعها حسب رغبة العملاء، من ثَمَّ توسَّع بمشروعه حتى أصبح الآن صاحب أكبر مصنع مجمدات لتصنيع اللحوم.
عاد من شروده وتأملاته على صوت الطبيب، والذي دلف لغرفته وهو يراجع الأجهزة الطبية ويقوم بفحصه ثم يقول في ود:
- إنها من أنجح العمليات التي أجريتها في حياته.
حاول أن يشكر الطبيب، ولكنه فشل في ذلك فاكتفى بابتسامة ودودة فهمها الطبيب ليقول له:
- لا تشكرني أنا؛ فالفضل كله يعود لله ثم فرح، والتي توافقت أنسجتها معك ومنحتك فصًّا من كبدها، كان كفيلًا بإنقاذك من موتٍ مُحقَّق.
ليستطرد قائلًا: هل تعلم أنها أصرَّت أن تكون بجانبك وألَّا تتركك وحدك رغم أنها ما زالت بفترة النقاهة؟
قال هذا من ثم غادر متمنِّيًا لهما الصحة والعافية.
مرة أخرى نظر نحو فرح، والتي كانت ترتسم على ملامحها نفس الابتسامة، وما زالت تُردِّد نفس العبارة:
- إنت كويس.. إنت كويس؟ متسبنيش لوحدي.
- تمت
آمال محمد صالح احمد
هند حمدي عبد الكريم السيد
ايمان سعد عبد الحليم بسيوني
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































