أنظر حولي، السوق مزدحم بالبائعين والمشترين، صخب وألوان وروائح، والجميع في حركة دائمة، بينما أنا ساكنة في مكاني، كأنني جزء من هذا المكان، بائعة عابرة لا يتذكرها أحد، لكنني أعلم أنني أحمل شيئًا أكبر من الخضرة على رأسي؛ أحمل وجعًا يسير معي، يختبئ بين طيات عباءتي وصوتي المتهدج، يُخفيه نداء الحراج وكأنني أبيع ألمًا مُغطى بورق نعناع.
تمر بي لحظات كأنها سنين، أرفع بصري وأخفضه، أراقب نظرات الناس، بعضها يقترب بحذر، والبعض ينظر طمعًا أو ازدراءً، وأكمل طريقي بينهم، أتحرك كالسحابة الداكنة في سماء ربيعية، بلا وجهة، أُغني بصوتي، أخفي فيه شوقي، "خضرة طازجة.. تعالي يا ست الحُسن، يا من يسكن الدار، يا من لم يعد له أحد سوى الانتظار."
يقولون إن من ينتظر كثيرًا يفقد صوته، لكنني وجدت صوتي في الغياب، في كل كلمة تخرج من بين شفتيّ، في النداء الذي أحاول أن أملأه بالحياة، رغم أن الحياة تجردت من لونه منذ رحيله. عاهدته أن أبقى له، وأن أظل هنا، في انتظار عودته، وأن أكون كل شيء له حين يعود. وها أنا اليوم بائعة، عابرة، وحيدة، وامرأة منكسرة، تجمع نفسها من السوق كل يوم كأنها بقايا ليلة طويلة من البكاء.
"أما زالت الخضرة طازجة؟" يأتيني صدى صوته كنسمة في ظهيرة حارقة، فأمسك بطرف العباءة، وأضمها إلى صدري، أخفي ارتعاشة يدي، أخاف أن أفقد شيئًا من ملامحه، فأتشبث بالذاكرة، بوجهه، بكلماته، كأنها الحبل الأخير الذي يربطني بالحياة. أغمض عينيّ، وأرى صورته، وأشعر به قريبًا، وكأنه لم يرحل أبدًا، وكأن الأيام كانت مجرد حلم مزعج، وسأستيقظ في أي لحظة وأجده بجواري.
أسير باتجاه المحطة مرة أخرى، رغم القسم الذي قطعته على نفسي ألا أذهب إليها مرة ثانية، لكنني امرأة مهزومة، يتغلب عليها الشوق ويهزمها الغياب، وأقسم في قلبي قسمًا جديدًا: "إن عاد، سأكون له الأرض والسماء، سأترك الخضرة وكل ما لديّ وأصبح له، وإن لم يعد، سأحملني بعيدًا عنه، سأنزف منه حتى الفراق الأخير."
أصل المحطة، أقف، أتسمّر في مكاني، أراقب المسافرين كأنني أراقب جزءًا من قلبي يتناثر بينهم، يرحلون ويعودون، وأنا هنا، صامتة، أردد الكلمات ذاتها في سري، في تضرع لا ينتهي، أن يعود هو، فقط هو، ويتبدد شوقي كما يتبدد الضباب في أولى نسمات الصباح.
لكن المحطة تصمت، يبتعد الجميع، ويترك لي الغياب صوتًا مُرًا، لكنه الصوت الوحيد الذي أملك.
أجمع نفسي ببطء، أرتب أفكاري وأعود إلى السوق بخطوات أثقلها الحزن. قلبي صار مثل بضاعتي، مرمية أمام كل من يمر، ولا أحد يشتري، فقط نظرات وحيدة ترتد عليّ، وفي داخلي كومة ألم لا يراها أحد. أغلق عينيّ في منتصف الزحام، أتخيل أنني أسير إلى بيت بعيد، أن هناك من ينتظرني على العتبة، أنني امرأة تعود أخيرًا إلى الأمان، حيث يكون حضوره حقيقيًا وليس شبحًا يتردد في أذني.
تمر الأيام، وأنا كما أنا، في السوق، بين صخب الألوان ونداء الأصوات، أخفي أنوثتي في أطراف العباءة، أخبئ وجعي تحت ثنايا الحجاب، وأرتب خضرتي كأنني أرتب جراحًا قديمة. يمر الوقت، ويزيد الغياب كثافة، كأن المسافة بيني وبينه تتسع يومًا بعد يوم، وكأنني أنحدر إلى قاع عميق من الشوق لا نهاية له.
في يوم عادي، في قلب النهار، يقترب مني رجل غريب. يراقبني قليلًا ثم يقول بنبرة هادئة: "أما زالت الخضرة طازجة؟" تجمدت للحظة، وكأن الكلمات حملت شيئًا من ماضيه، كأنها كانت نداؤه لي، فابتلعت الدمعة التي كانت تحاول الهروب من عينيّ، وقلت بصلابة مصطنعة: "الخضرة طازجة دومًا، لكنها لا تشبع أحدًا ممن يبحث عن الماضي." ابتسم الرجل وأومأ برأسه، ثم ابتعد، وتركني مع سؤال جديد: ماذا لو كان الغياب هو القدر، وأنني أعيش في دائرة أحلام لن تتحقق؟
في الليل، عندما أعود إلى غرفتي، أخلع عباءتي وألقي بالحجاب على الكرسي، أواجه المرآة، أرى امرأة مختلفة تمامًا، امرأة أنهكها الانتظار وتعمقت تجاعيد الحزن في ملامحها، لكن بريقًا خافتًا في عينيها ما زال يقول إنها لم تفقد الأمل تمامًا. أفكر في كل لحظة قاسية مرت عليّ، في كل مرة انهار فيها قلبي وانتشلته بنفسي. في كل مرة قلت لنفسي: "يعود، سيعود حتمًا."
أخلد إلى النوم على أمل واهن، وعندما أستيقظ في الصباح، أقف أمام المرآة، أربط شعري جيدًا، ثم أضع الحجاب
وأقف أمام المرآة، أربط شعري جيدًا، ثم أضع الحجاب وأتأكد أنني أبدو ثابتة، قوية، كما كنت دائمًا. أغلق الباب خلفي وأتوجه إلى السوق، وكأنني أواجه هذا اليوم كما واجهت غيره، دون جديد يُقال، سوى صوتي الذي اعتاد الصراخ من عمق الصمت: "خضرة طازجة… خضرة طازجة."
لكن اليوم، كان هناك شيء مختلف في الهواء، لم أستطع تفسيره. كانت هناك حركة غريبة في السوق، العيون تتلاقى بنظرات غريبة، وكأنها تنتظر حدثًا لا تعرفه. وفي وسط تلك الفوضى، وجدتني أتوقف عن النداء، ألتقط أنفاسي، وأحس بضربة قوية في صدري، ضربات قلبي تتسارع كأنني أركض إلى مصير مجهول.
وفجأة، كأنه خرج من بين ضباب الغياب الذي أرهقني لسنوات، رأيت ظلًا يتقدم نحوي ببطء. لم أكن بحاجة لأن أميز تفاصيله، كنت أعرفه، أميز خطواته، حتى لو عاد في الظلام. كان هو، وقف أمامي، وعلى وجهه نظرة لا أستطيع تفسيرها، خليط من الشوق، الأسى، وربما الندم. أردت أن أصرخ، أن أخبره عن السنوات التي قضيتها في انتظاره، لكن الكلمات تعقدت في حلقي، والدموع ملأت عينيّ دون إذن.
اقترب أكثر، ومد يده نحوي. لم يكن في يده شيء، لكنه حمل كل ما أفتقده، كل ما انتظرته. بصوت مرتجف، همس: "أيعقل أنك ما زلت هنا؟ ألم تتعبي؟"
نظرت إليه، نظرة حاربت فيها كل ضعفٍ قد يظهر، وقلت بثبات: "أقسمت لك يومًا أنني سأنتظرك، ولم أتراجع عن قسمي."
مد يده ليمسك بيدي، كانت يدي باردة، واهنة من الانتظار، لكنه ضمها بين كفيه وكأنه يريد أن يعيد لي الدفء الذي فقدته منذ زمن. كأن العالم كله صمت من حولنا، وكأن كل شيء توقف ليشهد لحظة لقاء الحبيب العائد.
قال بهدوء: "أنا آسف، لقد ضعت في طريقي، ظننت أنني أستطيع الحياة بعيدًا، لكنني لم أستطع، عدت إليك كما أنا، متعبًا، منهكًا، ولكنني هنا."
تعلقت عيناي بعينيه، ووجدتني أبتسم، ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها كل شيء، الحزن والفرح، الأسى والأمل، وقلت بصوت متهدج: "المهم أنك عدت، ذلك يكفي."
وفي تلك اللحظة، شعرت أنني أستطيع أخيرًا أن أترك الخضرة، أن أترك السوق، وأن أبدأ حياتي من جديد.
وقفنا هناك وسط السوق، بينما العالم حولنا كأنما تلاشى. لم أعد أسمع أصوات الباعة ولا خطوات المارة، كانت كل التفاصيل باهتة، إلا هو. هو الذي عاد ليعيد لي قلبي، ليعيدني أنا إليّ.
قال بصوت هادئ: "أتعلمين؟ كنت أراكِ في كل شيء، حتى في أبسط الأشياء، كأنكِ أصبحتِ في عروقي، وكنتِ دائمًا الحلم الذي لا يفارقني."
أردت أن أخبره عن ليالي السهر، عن النداءات التي ملأت السوق باسمه، عن تلك اللحظات التي كنت أخاطب فيها الفراغ وكأنه يسمعني، لكن الكلمات كانت ثقيلة، ثقيلة كالسنين التي مرت. لم أكن بحاجة إلى أن أقول له شيئًا، فكل ما في نظراتي كان يحمل قصة الانتظار الطويل.
شعرت بدفء يده يمرر إلى قلبي شحنة من الحياة التي ظننت أنها غابت، ثم همس لي بصوت كأنه يحمل وعدًا جديدًا: "لن أرحل مجددًا."
ابتسمت ابتسامة من قلب منهوك ولكنه سعيد، وكأن ابتسامتي عادت لتحيي في داخلي عروقًا جفت. رفعت يدي بهدوء إلى طرف حجابي، وأحكمت ربطه. شعرت بأنني أقف أمامه هذه المرة لا كمنتظرةٍ منهكة، بل كامرأة عادت لها كرامتها وبهاؤها؛ امرأة انتظرته وعرفته حق المعرفة، وعرفت نفسها في غيابه.
تجولنا في السوق، كان الناس ينظرون إلينا باستغراب، كأنهم يرونني لأول مرة مع رجل يستحق مكانه بجانبي. همس لي مجددًا: "ألم تتعبي من هذا المكان؟ ألا ترغبين بأن نترك كل هذا وراءنا ونبدأ من جديد؟"
نظرت إليه بعمق، وقلت له بصوت ملؤه اليقين: "طالما كنت أحلم بلحظة نترك فيها الماضي خلفنا، نبدأ حياتنا نحن، بلا أوجاع، بلا انتظارات، فقط نحن."
شدّ على يدي، وخرجنا من السوق معًا، كأننا نطوي صفحةً ثقيلةً من العمر ونفتح أخرى. كان المشهد كله خلفنا باهتًا، كل شيء سوى خطواتنا التي كانت تحمل نبضات قلبين التقيا بعد طول غياب، وفي تلك اللحظة عرفت أن الحياة قد منحتني فرصة أخرى، فرصة لأن أعيش الحب كما كنت أحلم به.
سرت بجانبه، وكان الأفق أمامي رحبًا، مليئًا بآمال جديدة، وأعلم أنني هذه المرة لست وحيدة، فقد عاد لي عالمي الذي افتقدته، وعادت لي الحياة بابتسامة رجل أحببته، وانتظرته حتى عاد.
عدنا إلى البيت كما يعود المطر بعد جفاف، لا شيء في الطريق يشبه ما في قلبي، كنت أمشي وأنا أحاول أن أصدق أنه بجانبي، أن يده في يدي، أن الغياب صار خلفنا لا بيننا.
فتح لي الباب كمن يفتح حياة جديدة، دخلت بخطى مترددة، لكن رائحة الدفء كانت تسبقني. نفس الأثاث القديم، نفس الجدران التي حفظت دموعي، لكن كل شيء فيه صار أجمل، فقط لأنه هنا.
جلسنا بصمت، لكنه كان صمتًا عذبًا، كأن أرواحنا تتحدث دون حاجة للكلام. نظر إليّ طويلًا، وقال:
"أين ذهبتِ كل هذه السنين؟
كنتِ هنا، لكنكِ لم تكوني.
كان جسدكِ في السوق، في المحطة، في النداء، لكنكِ كنتِ غائبة… غائبة عني، وغائبة عن نفسك."
هززت رأسي وقلت بهدوء:
"أنا كنتُ مشغولة بحمايتك، بحراسة الغياب، أناديك في الهواء، أفتش عنك في الوجوه. كنتُ أقاوم كل يوم أن لا يضيع حبك في زحام الحياة، وكنت كلما تعبت، أردد لنفسي: سيعود، وإن لم يعد، سأموت وأنا أحبه."
سكت لحظة، ثم اقترب وجلس على الأرض أمامي، وضع رأسه على ركبتي كطفل عائد من ضياعه، وهمس:
"ليتني كنتُ أعرف، ليتني كنتُ قويًا كفاية لأحارب من أجلك… لكنني كنتُ أضعف من أن أواجه العالم، أو حتى نفسي. تركتك لأنني شعرت أنني لا أستحقك، واليوم جئت لأقول… أنا لست كاملًا، لكنني عدت كي أكون لك."
مسحت على شعره كما كانت تفعل أمه ربما، أو كما كنت أتخيله يفعل في حلمي، وقلت له بصوت يخرج من عمق أنوثتي وصبري:
"أنت لا تحتاج أن تكون كاملًا… كنت أحتاج فقط أن تكون هنا."
في الخارج، بدأ المطر ينهمر، كأن السماء تحتفل بعودته.
وفي الداخل، كنا نحن… قلبان كللتهما الندوب، لكنهما اختارا أن يكونا لبعضهما، رغم كل شيء.
ولأول مرة منذ سنوات، لم أعد أبيع "خضرة طازجة"، بل صرت أزرع خضرتي في قلب رجل، وعدني أن لا يرحل أبدًا.
ولأول مرة…
كنت امرأة، كاملة، تنتمي.