بعد فترةٍ من الانبهار، حين يُشرق الحبيب بأبهى الصور وأكمل الصفات،
تبدأ الأرض تستدعي خطواتنا، وتهبط المشاعر من عليائها،
نرى الآخر بعيونه الحقيقية، لا بمرآة الأحلام الوردية،
ونكتشف الاختلافات التي كانت تختبئ خلف ستار الهالة.
وهنا، كأننا نُعطى مرآة سحرية، تعكس ما لا نود أن نراه،
العيوب، الابتعاد عن توقعاتنا، أو حتى صمت القلب في بعض اللحظات.
فبأنانية بشرية غالبة، نُبحر في حلم تعديل الآخر،
نجتهد أن نُشكل منه نسخةً مطابقةً لمقاييسنا وأهوائنا،
علّ العلاقة تبقى على مزاجنا، ويدور العالم حول رغباتنا.
هنا، يبدأ صراع القوة،
حربٌ بلا مدافع، بين إرادتين تصرّان أن تمسك زمام الأمور،
كلٌ يريد مسطرته، مقياسه، طريقته، رؤيته، ميزانه، قياسه، ونظره.
تتعدد النتائج، وحبكتها واحدة:
نزهق، نرحل، نُعلن الهزيمة. "هو أو هي لم يرغبوا بالتغيير، ونحن حاولنا".
أو تستمر المعركة، كمناظرة الديوك ومناطحة الوعول،
نقير، نقرع، نتصارع، نُقايض الغضب، ونُكَوّن جدرانًا بين القلوب.
أو ينكسر أحدنا ويذوب في الآخر، يُطبع على قياسه، يتلاشى كظل،
يُلغى، يُبتلع، ويتحوّل إلى نسخةٍ باهتةٍ من ذاته.
وأحيانًا، وهنا تنمو بذور النضج، نجد صيغة وسطية،
تجعلنا نُعيد تشكيل ذواتنا، نعدل شخصياتنا،
نتوافق دون أن نفقد ذواتنا، ننمو دون أن نخسر ألواننا.
مثلاً، هناك الاجتماعي الذي يرقص مع الناس كأغنيةٍ عذبة،
والانطوائي الذي يفضّل صمت الظل، وهدوء العزلة،
فإما أن يشدّ كل منهما الآخر، فيفشل اللقاء، أو يرضخ أحدهما فيذوب،
أو يُبدع الاثنان صيغةً توازي بين الاثنين،
يصنعان من اجتماعيّةٍ وانطوائيةٍ مزيجًا،
كـ"أمبيفرت" بين عالمين، ليس أقل ولا أكثر،
بل أوسع وأعمق، نسيج بشريّ غني ومتعدّد.
لكن هذا النضج لا يأتي صدفةً، ولا هديةً مجانية،
هو ثمرةُ جهدٍ، وتضحيات، ودوافع قوية،
لا يتحقق إلا حين يُخلق رباطٌ عاطفيٌ صادق،
يُعطي العلاقة قيمةً، ويُشعل رغبة الحفاظ عليها.
ولكن، ليكون هذا ممكنًا،
يحتاج الأمر إلى أناسٍ ذوي حدود مرنة وصلبة،
حُسّ ذاتٍ صحي وقوي، لا يذوب ولا ينكسر،
يستطيعون رؤية الآخر كما هو، بلا تجميل أو تنفير،
يحتضنونه بتفرده، يحترمون اختلافه،
يقنعون أن لا حق لأحد في تغيير الآخر قسرًا،
وأننا كائناتٌ مستقلة، متساوية في الحقوق والاحترام.
العلاقات الناضجة ليست مَسيرةً سهلة،
إنها اختبار للحكمة، قوة القلب، والنضج النفسي،
مكافأةُ ذاتٍ تعلّمت كيف تبني، لا كيف تُهدم،
كيف تُصافح، لا كيف تصارع،
كيف تُنصت، لا كيف تُفرض،
كيف تحب، لا كيف تسيطر.
في هذا النضج، يزهر السلام،
ويصبح الحب فضاءً رحبًا للذات،
لا قيد فيه ولا سجن،
بل حرية تحلق فيها الروح، بلا خوف ولا تنازع.