في زاوية هادئة من الحي القديم، حيث تصنع الحياة تفاصيلها ببطء، ينبعث عبق الخبز الطازج من فرن صغير لا ينطفئ. هناك، بين دفء النار ورائحة العجين، تنسج القلوب صمتًا يتحدث أكثر من الكلمات، وحكايات تلتقي على حدود الخوف والرجاء. هي امرأة تمشي بخفة الضوء، وهو رجل يخبئ ناره خلف صمت عميق. بينهما مساحة واسعة من المسكوت عنه، حيث لا تُقال الكلمات، ولكن تُحسّ. في هذا المكان، تبدأ قصة تُشبه خبزًا يُعجن بحذر، وينتظر اللحظة التي يتحول فيها من مجرد رغيف إلى طعم لا يُنسى.
قالوا عنها "لعوب"، لكنهم لم يروا في دلالها سوى فطرة طبيعية، كالمشي اللين الذي يشبه انسياب الضوء على صفحة ماء صافية. لم تكن تفتعل الفتنة، بل كانت الفتنة تسبق خطواتها أينما مرت.
في الحيّ نادوها "كعكة السُّكّر"، ربما لأن وجنتيها تشبهان طيف شمس دافئ، أو بسبب حلاوة كلامها الذي يذوب في القلب، أو لضحكتها التي تفاجئ المارّين وتطرد تعبهم.
تمرّ كل صباح أمام فرن المخبز الصغير، حيث يقف هو، رجل صامت كالعجين حين يُخمَّر، وعيناه تشبهان رمادًا يحوي جمرًا خفيًا. لم تتحدث معه مباشرة، لكنها كانت تترك سؤالًا معلّقًا في الهواء:
"هل يكفي الخبز لإشباع الجسد، أم أن القلب يحتاج إلى نار تدفئه؟"
ابتسم لها، ابتسامة ليست فرحًا، بل محاولة نسيان.
وذات مساء، أرسلت إليه صينية من كعك السُّكّر، وعلى حافتها وردة مجففة، ورسالة قصيرة:
"العجين لا يصير خبزًا، إن لم يقترب من النار..."
قرأ الرسالة مرتين، تنفّس بعمق كأنه يشمّ عبير ياسمين خُفي في الهواء. لأول مرة شعر أن الصمت لم يعد ملاذًا، وأن الحذر قد يسلبه دفءَ الحياة.
"هل أستحقّ أن أخاطر بناري؟
أنا رجل خبز، أتقن الصبر، لا أتقن الكلام،
لكن ماذا لو اشتعل قلبي… وأحرقها؟
كيف يُطبخ الحب دون أن يحترق؟"
لم يكن الخوف من الوحدة، بل من هشاشة الذات، من أن تُثقل لهفة القلب كاهله.
(يهمس لنفسه):
"هل أعطيها من ناري أم أبقى بعيدًا كي لا أؤذيها؟
ولكن كيف أبتعد عن النار وقد وهبتني دفء لا يشبه دفء الخبز؟"
أغمض عينيه للحظة، تذكّر وجهها الذي لا يشبه أحدًا، ذلك الوجه الذي كان وطنًا بلا كلمات.
"سأخاطر.
سأخبز لنا قصة لم تُروَ من قبل،
قصة تعلم القلب كيف يحب دون أن يحترق."
في غرفتها الصغيرة، تحدّقت في الجدران التي تحمل رائحة الخبز القديم، وقلبها تموج بعاصفة من المشاعر، تتأرجح بين الرجاء والخوف.
"هل أستحق أن يُخبزني بحنان؟
أم أني أُجرح كلما اقتربت النار؟
لطالما كانوا يرونني لعوبًا،
لكن في داخلي بنت الجراح، التي تخشى أن تُفتح مجددًا."
تذكرت صمت الرجل ونظرته الثقيلة التي تخفي بردًا لا تريد أن تكسره.
رغبت أن تلمسه بقلبها قبل يديه، وفي الوقت نفسه، خافت أن تكون لهفة قلبها سببًا في الرحيل.
(تهمس):
"لماذا يخيفني الحب؟
هل لأنني تعبت من الخسارة؟
أم لأنني لا أريد أن أكون رمادًا في نيران أحد؟"
لكنها عرفت في أعماقها شيئًا واحدًا:
أن البقاء بعيدًا لن يدفئها،
وأن الحياة بلا مخاطرة لا تستحق أن تُعاش.
"علّمني كيف أحب بلا خوف،
كيف أكون رغيفًا لا يحترق،
بل يكتسب طعمه من كل لحظة اشتعال."
ظلّت النيران مشتعلة في المخبز… وفي القلوب.
هو لم يقترب، ولم تبتعد.
صار بينهما شيء لا يُخبز على عجل،
الحب كالعجين… يحتاج وقتًا، وهدوءًا، ويدًا لا ترتجف.
لم يُقال شيء،
لكن الهواء بينهما صار أخف،
كأنهما تذوّقا من صمتٍ واحد،
واكتشفا أن بعض القصص لا تحتاج خاتمة،
بل يكفي أن تُروى… وتُترك لتنضج على نار الحياة.