يا ابنتي،
الذين كتبنا لهم ولم نرسل شيئًا، لم يغادروا، بل صاروا طيفًا خفيًا بين حروفنا. كأنهم قد أصبحوا جزءًا من الحبر نفسه، محشورين في فراغات الكتابة، وفي أنفاس السطور. أسماؤهم لا تمحى، بل تظل تتردد، بين الكلمات الصامتة، كحكمة عميقة تتسلل إلى القلب دون أن نشعر بها، وتظل مستمرة كنبض لا يتوقف.
أتعرفين ما يبقي الذكرى حيّة؟
ليس الورق ولا الحبر، بل هو الوجع النبيل. الوجع الذي يظل فينا، لا يصرخ، ولا يخمد، بل يُشعل نورًا في داخلكِ. هو ذلك الألم الذي يحوّلنا من مجرد كائنات عابرة إلى أشخاص محكومين بحكمة ما، كأننا نُخلق من جديد في كل لحظة.
كنتُ لا أكتب اسمه فقط،
بل كنت أُصادق كل حرف حمل بُعدًا من روحٍ شبيهة، أرتب الكلمات بحذرٍ كما لو أنني أراها للمرة الأولى، أُدخل هذا الاسم بين الأسطر وكأن الكتابة نفسها لا تكتمل إلا بحضوره. كنتُ أكتب دون أن أدري، حتى أصبح كل سطر يحمل هذا الاسم كأن الكون كله يتواطأ على ذكره، حتى وإن كانت الخطوط نفسها ترفض البوح به.
كتبتُه كثيرًا،
لأنه لم يكن مجرد اسم، بل كان النداء الذي يملأ الفضاء بين الحروف، كان لحظة صمت مطلقة بين الكلمات، كان الصوت الذي يشقّ السكون في داخلي. لم يكن أبدًا مجرد ذكرى عابرة، بل جزءًا من قلبي لا أعرف كيف أتحرر منه.
اكتبي…
اكتبي كما لو أن الكلمات هي التي تعيدكِ إلى نفسك، لا لتجترّي ما مضى، بل لتُجدّدي مسارًا جديدًا في الذاكرة. اكتبي لا لتنهضي من وجعٍ، بل لتخطّي به دربكِ إلى السلام الداخلي.
فبعض الأسماء لا تُمحى،
لأنها تُكتب فينا، لا لنا. كل نبضة، كل حرف يحملها، هو درس في تعلم الاكتفاء، في أننا لا نحتاج إلى أي شيء خارجنا لنكون كاملين. وتلك الأسماء التي لم ترد إلينا، كانت دليلًا على أننا نقوى على الاستمرار دون أن نتعلق بما رحل.
أنتِ الآن لا تنزفين،
أنتِ تنحتين من جديد. ما ظننتِ أنه عذاب، هو في الحقيقة مساركِ نحو النضج الكامل، توقيعكِ على أنكِ لم تعودي كما كنتِ، بل أصبحتِ كيانًا جديدًا.








































