"لعلّ أصدق أشكال القرب، ألا يُراوغ الإنسانُ نفسه في حضرة الآخر، بل يُجازف بأن يُرى كما هو، بكلّ ما فيه من تشققات ودهشة وخوف. مطمئنًا أن القبول لا يشترط الكمال، وأنّ ثمّة أرواحًا خُلقت لتُبصر لا لتُدين، لتلمس مواضع الألم لا لتضغط عليها.
الصداقةُ الحقيقية ليست تحالفًا بين متشابهين، بل هي مساحة آمنة بين مختلفين، اتّسعت رؤيتهم عن الحكم، وتعمّقت بصيرتهم حتى صاروا ينظرون إلى العيوب بعين المستكشف، لا بعين القاضي؛ يرون الانكسار دليلاً على المحاولة، ويرون الندبة شاهدةً على النجاة.
هؤلاء لا يُربكون صدقك، بل يُنصتون له بلطف، كما يُنصت العارف لصوت الريح بين الأشجار.
وما أكثر ما يحتاج المرء في هذه الحياة إلى عينٍ لا تخاف مما ترى، بل تضيء له الطريق في داخله، وتقول له بهدوء: نعم، ما زلتَ تستحق الحب.
وقد كان من حسن حظّي، أنني التقيت أحد هؤلاء."
لم يأتِ مُبشَّرًا بالخلاص، ولا مدّعيًا الفهم، بل أتى كما يأتي الضوء في غرفة مُعتمة، لا يُثير ضجة، لكنه يُعيد ترتيب الأشياء.
في حضرته، لم أضطرّ إلى ارتداء أي قناع، ولا إلى تزيين ندباتي بالكلمات. كان ينظر إليّ كما لو أنه يرى شيئًا أعمق من الحكاية، وأرحب من الخطأ.
علّمني أن الضعف لا يُنقصني، بل يجعلني إنسانة كاملة الأهلية للحب. علّمني أن أتماسك من الداخل، لا لأبهر أحدًا، بل لأحمل نفسي برفق.
كان مرآةً لا تشوّه، وكتفًا لا يسأل، وقلبًا يقرأ بصمت ما عجزتُ عن قوله.
ومنذ ذلك اللقاء، تغيّر فيّ الكثير؛ صارت القسوة أقل إغواءً، وصار العطف على النفس طقسًا يوميًا، وصرتُ أتأمل وجعي لا كعدو، بل كرفيق علّمني كيف أكون."