لم يكن بمقدورك المرور بجوار كفر (أبو نهقة) دون أن تسمع معزوفة فريدة من نوعها، كنا نسميها مقطوعة (أنكر الأصوات)، ربما لم يوجد بلد في القطر كله مثل كفرنا، دائما ما كان الحمار أهم رفيق للفلاح، لكن عندنا الحمار كان يساوي حياة، بما أنه ما من طرق معبدة.
فالطريق، سمه مجازًا طريق لأنه كان عبارة عن مشاية بين الأراضي الزراعية لا يتسع إلا لعرض الحمار بحِمْله، كان يشبه موج البحر _ لم أرى البحر قبلًا _ عمي زار البحر مرة وهو في تكليف الجيش، وقال: (إن الموج يصعد ويهبط بك دون أن تشعر). كان حمارنا يعلو ويهبط كموج البحر بي أنا (وجراكن) المياة التي اعتدنا أن نجلبها من محطة تكرير المياة بكفر المعيز، كنا نستغرق ساعتين ذهابًا وإيابًا أنا ورفقائي من الصبية، وربما نصف نهار في انتظار الدور، لو سألتني عن الصرف الصحي سوف تسمع مني صوتًا أنفيًا يفوق نهقة حمارنا علوًا.
كانت معظم الدور، تمتلك أكثر من حمار، وربما عائلة كاملة من الحمير، ولكن تأتي الحكومات بما لا تشتهى الحُمرُ، وصل الأسفلت للكفر، وبعده بعام وصلت مواسير المياة، ليتكسر الأسفلت كي تُركب المواسير الضخمة، فرحتنا بوصول المياة لم تجعلنا نمتعض من الطريق الذي عاد كموج البحر ثانية حتى ونحن نركب السيارات التي غزت الكفر، وقد وعدنا عضو مجلس الشعب الفائز بالدورتان الماضيتان أن إعادة رصف الطريق من أولوياته.
بالطبع لو سألتني عن الصرف الصحي ستسمع مني نفس الصوت الأنفي، لكنه لن يعلو عن صوت حمارنا، لأنه لم يعد لدينا حمار، باعه أبي بعد رصف الطريق، مثله مثل باقي أهل القرية، كان هجوم تجار الحمير على الكفر عجيبًا حتى أن الحمار وصل لألفان وثلاث من الجنيهات بعد أن كان (أجعصها) حمار بخمسمائة، سمعنا طراطيش كلام أن الجزارين يذبحون الحمير ويبيعون لحومها بدلًا من البهائم، وطراطيش أخرى تقول بأن الحكومة تصدر الحمير للصين، أخبرني (الواد احسين ابتاع الصيدلية) إنهم يصنعون منها تلك المنشطات التي غزت جيوب الرجال، كنت أتعجب كيف لهم أن يفعلوا كل هذا بالحمير؟! لكنى عندما بدأت أسمع صدى نهيق يخرج من غرف النوم ليلاً، صدّقت فاعلية خلايا الحمورية.
أتعلم؟! لم يبقى ببلدنا غير حمار العمدة، أصيل عمدة بلدتنا، أوصاه العمدة الكبير بحماره وأهل الكفر، فاهتم بالحمار وسخر أهل الكفر لخدمة الحمار، فصار قانونًا أن حمار العمدة لا يربطه رابط، ولا يقيد قيد، ولا يغلق عليه باب زريبة، يسير بالكفر، يأكل من أي حقل أراد، ويرفس في أي اتجاه، الجميع يعرفونه ويهابونه، بل صار الحمار مبروكًا، ويا ويله من يتكرر نهق الحمار أمام بيته أكثر من ثلاث مرات، معناه أن البيت مسكون بالجن والعفاريت، ووجب طرد أهله منه، وأصبح ملكية عامة للكفر، والكفر لا يعني إلا العمدة، أطال الله عمره وعمر حماره.
لكن دوام الحال من المحال، لاحظ العمدة أن حماره يبدو عليه الحزن، ولم يعد ينهق كسابق عهده، تشاور مع نجباء القرية بأمر الحمار، فأخبروه أنه ربما يريد التزاوج، بحثوا عن إتان تليق بأبو صابر، فما وجدوا من تليق أو لا تليق، فما من حمير بالكفر غيره، حزن العمدة على حزن حماره، الذي بدا أن الوحدة قاتلته لا محالة، فنصحه نفس النجباء بأن يزوجه من فرسة بنت أصول، رفع شيخ البلد رأسه ناطقًا، بأن هذا النسب لا يليق إلا بفرسه من نسل عربي أصيل مثل التي عنده، وافق ما قاله شيخ البلد هوى العمدة، وأتوا بالفرسة، بدأ حمار العمدة يتودد إليها بعد وقت ليس بالقصير، ولكنه كلما اقترب منها نفرت وصهلت، يشمشمها فتنقر بحافرها الأرض، يخاف هو ويبتعد، يوم، يومان، ثلاث، ولا يقدر الحمار أن يقترب من الفرسة، مما زاد من حزنه، فبدأ يرفض الطعام، والماء رغم أنه ماء مكرر من الحنفية، التي أصبح الماء بها يغيب أكثر مما يأتي…
جلس العمدة مع نفس النجباء، ليتباحثوا في أمر الحمار، فأشار عليه أحدهم أن يشتروا أتانًا من بلدة مجاروة، نهره العمدة وأكد أنه لن يعقد تلك الصفقة مع كفر المعيز، بعد أن غلبتهم أنانيتهم، وتركوا لمعيزهم الحبل على الغارب في هدر المياه، ومنعوا وصول المياه لقريتنا إلا يومين بالإسبوع، رغم قسم عمدتهم أنه سيربط معيزه بعيدًا عن محطة المياه…
فنطق شخص ما من النجباء، بأن الحمار ربما فقد جسارته من طول وحدته وعزلته، لم لا نعطه من تلك الحبوب التي تجعل رجال البلدة ينهقون طوال الليل؟!
تذكر العمدة أن تلك الحبوب أعادت له بعض من فحولته، وتمنى لو سمع حماره ينهق من جديد، فوافق من فوره على تلك الفكرة الجهنمية.
(أشار الواد احسين ابتاع الصيدلية) أن الحمار غير الإنسان ويجب أن يأخذ جرعة أكبر، أذاب شريطًا كاملاً في الماء للحمار، وانتظروا حتى استبد به العطش فشربه…
نهق الحمار نقهةً مدوية، سمعها كل من بالقرية، فاستبشروا خيرًا، رفع الحمار رجليه الأماميتين وأقبل على الفرسة، فرفسته بكلتا رجليها الخلفيتين، كانت ركلة بقوة حصانين في مقتل، سقط الحمار أرضًا، تقلب يمنة ويسرة وهو يرفس، حاول النهاق، فخرجت منه شخرة طويلة، جلبوا طبيب الوحدة الصحية لإسعافه، لكنه كان بلا فائدة، نظر للعمدة بعيون يملأها الخوف قائلًا:
_ ساب لك طولة العمر يا عمدة.