2- البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب
في صالونات الأثرياء المصريين والعرب
صحيح أن رعاية الفنون والآداب في صالونات الأثرياء المصريين والعرب شهدت بداية متأخرة مقارنة بما حدث في أوروبا حيث ازدهرت الصالونات الثقافية وقصور النبلاء كحواضن للفن منذ القرون الوسطى وعصر النهضة. يمكن فهم هذا التأخر من خلال عدة عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية.
البدايات المبكرة في الحضارة العربية الإسلامية: منتديات أدبية وليست "صالونات"
تاريخيًا، عرفت الحضارة العربية الإسلامية أشكالًا مبكرة من المنتديات الثقافية والأدبية خاصة في العصور الذهبية حيث كانت مجالس الخلفاء والأمراء والعلماء تستضيف المناقشات والمناظرات الشعرية والعلمية، والفقهية. كانت هذه المنتديات أشبه بـ "مجالس العلم والأدب" التي تعكس مكانة المضيف وثقافته ولكنها لم تتخذ دائمًا الشكل المنظم للصالون الأوروبي ولم تكن مكرسة بشكل أساسي لرعاية الفنون التشكيلية والموسيقى بنفس النطاق وهناك أسماء مثل ولادة بنت المستكفي في الأندلس تُظهر وجود دور نسائي بارز في استضافة هذه المجالس في فترات مبكرة.
}حاشية : ( ولادة بنت المستكفي (994 - 1091 كانت أميرة أندلسية وشاعرة عربية بارزة، من بيت الدولة الأموية في الأندلس. اشتهرت بفصاحتها وجمالها وشخصيتها القوية، وكانت من أبرز نساء عصرها في قرطبة. وهي ابنة الخليفة الأموي المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن. ورثت عن أمها، وهي جارية إسبانية تدعى "سكرى"، بشرتها البيضاء وشعرها الأصهب وعينيها الزرقاوين. كانت تتمتع بشخصية مستقلة وجريئة، وكانت معروفة بكبريائها الشديد واعتدادها بنفسها. وقد أقامت ولادة بنت المستكفي مجلسًا أدبيًا مشهورًا في قرطبة، كان يؤمه كبار الأعيان والشعراء والأدباء ليناقشوا شؤون الشعر والأدب. كانت تنافس الشعراء وتجادل الأدباء وتفوقهم في كثير من الأحيان. من أشهر ما قيل عنها أنها كانت تكتب بيتين من الشعر على جانبي ثوبها:
• أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً
• أمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلة من يشتهيها
اشتهرت ولادة بعلاقتها العاطفية المضطربة مع الشاعر الشهير ابن زيدون. تبادلا الكثير من الرسائل والأشعار التي وثقت قصة حبهما وشغفهما، ثم خلافاتهما وقطيعتهما. يُعد ابن زيدون من أهم شعراء الأندلس، وكثير من شعره كان يدور حول ولادة. رغم عمق علاقتهما، لم تتزوج ولادة قط، وقضت حياتها دون زواج حتى وفاتها في عمر يناهز الثمانين أو التسعين عامًا. وتعتبر ولادة بنت المستكفي أيقونة للشعر النسائي في الأندلس، ورمزًا للمرأة المثقفة والجريئة التي تحدت الأعراف الاجتماعية في عصرها.{
التأخر في العصر الحديث كان بسبب عوامل متعددة
على الرغم من هذه البدايات، فإن مفهوم "الصالون" بمعناه الأوروبي الحديث الذي يركز على رعاية الفنون والآداب بشكل منظم، وانتشار الثقافة والفكر بين النخب، لم يظهر بوضوح في العالم العربي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. عدة عوامل تفسر هذا التأخر:
1. الركود الثقافي والسياسي حيث مرت المنطقة العربية بفترات طويلة من الركود تحت الحكم العثماني حيث تراجع الاهتمام بالعلوم والفنون مقارنة بالعصور الإسلامية الذهبية. كانت الأولويات تنصب على الاستقرار السياسي والديني ولم تكن هناك بيئة حاضنة لازدهار الصالونات الفنية بهذا الشكل.
2. غياب الطبقة النبيلة بالمعنى الأوروبي لم تتشكل في العالم العربي طبقة نبيلة ذات ثروات هائلة ونفوذ اجتماعي وسياسي مستقل على غرار نبلاء أوروبا الذين كانوا رعاة رئيسيين للفنون كانت الثروة والسلطة غالبًا ما تكون مركزية في يد الحاكم، الذي قد يرعى الفن لخدمة أغراضه الخاصة (مثل تزيين قصوره) أكثر من دعم الحركة الفنية ككل.
3. سيطرة المؤسسة الدينية كانت المؤسسة الدينية تسيطر على جزء كبير من الحياة الثقافية والاجتماعية وكانت تركز على العلوم الشرعية واللغة العربية بينما قد يُنظر إلى بعض أشكال الفنون التشكيلية والموسيقى (خاصة الغربية) بحذر أو حتى على أنها من "الملاهي" التي تتعارض مع صحيح الدين والعقيدة
4. التأثير العثماني لم يكن الحكم العثماني بصفة عامة مشجعًا على ظهور حركات فنية مستقلة أو صالونات ثقافية بهذا المعنى حيث كانت أولوياته تنصب على الجانب الإداري والعسكري والديني.
5. ظهور النهضة العربية متأخرًا بدأت النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر نتيجة للتفاعل مع الغرب والحملة الفرنسية على مصر مما أدى إلى وعي بأهمية العلوم والفنون الحديثة. هذا الوعي هو الذي دفع إلى ظهور الصالونات لاحقًا.
6. غياب البنية التحتية الفنية لم تكن هناك مؤسسات تعليمية للفنون الجميلة أو أكاديميات فنية بالمعنى الحديث قبل فترة متأخرة مما أثر على تطور الفن التشكيلي واحترافيته وبالتالي على رعاية الأثرياء له.
بزوغ الصالونات في العصر الحديث أعلام وتأثيرات
مع بدايات النهضة العربية، بدأ بعض الأثرياء والمثقفين في مصر وبلاد الشام في إنشاء صالونات ثقافية، متأثرين بالنموذج الأوروبي. هذه الصالونات لم تكن مقتصرة على الفنون، بل كانت منتديات جامعة للفكر والأدب والسياسة.
من أبرز الأمثلة في مصر:
• صالون الأميرة نازلي فاضل في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والذي كان يجمع كبار رجال الفكر والسياسة والأدب مثل سعد زغلول ومحمد عبده وقاسم أمين.
• صالون مي زيادة في أوائل القرن العشرين والذي كان من أشهر الصالونات النسائية في العالم العربي واستقطب عمالقة الأدب والفكر.
• صالون أحمد تيمور وصالون عباس العقاد.
هذه الصالونات لعبت دورًا محوريًا في :
• نشر الوعي الثقافي والفكري.
• تشجيع الحوار والنقاش.
• دعم المواهب الأدبية والفنية الناشئة.
• صياغة الأفكار التي ساهمت في النهضة العربية.
إن البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب في صالونات الأثرياء المصريين والعرب تعكس التحديات التاريخية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة ومع ذلك عندما بدأت هذه الصالونات في الظهورأثبتت فعاليتها كقوى دافعة للحركة الثقافية والفنية وساهمت بشكل كبير في تشكيل ملامح النهضة العربية الحديثة.
تحول الرعاية من الحكومات إلى القطاع الخاص والأفراد
تقليديًا، كانت رعاية الفنون والآداب في العالم العربي تعتمد بشكل كبير على الدولة والمؤسسات الحكومية. ومع ذلك، شهدت العقود الأخيرة تحولًا ملحوظًا نحو تزايد دور القطاع الخاص والأفراد الأثرياء في دعم وتنمية المشهد الثقافي. يأتي هذا التوجه مدفوعًا بعدة عوامل، منها:
• الوعي بأهمية الثقافة : تزايد الوعي بأن الثقافة والفنون ليست مجرد ترف بل هي جزء أساسي من التنمية المجتمعية وتعزيز الهوية وبالتالي خلق فرص اقتصادية.
• المسؤولية الاجتماعية للشركات : بدأت العديد من الشركات الكبرى والأفراد الأثرياء في تبني مفاهيم المسؤولية الاجتماعية حيث يعتبر دعم الفنون والآداب جزءًا من التزامهم تجاه المجتمع.
• الاستثمار في المستقبل : يرى بعض الأثرياء أن دعم المواهب الشابة والمؤسسات الثقافية هو استثمار في مستقبل المنطقة ويساهم في بناء جيل جديد من المبدعين .
• الرغبة في ترك بصمة ومجد شخصي : يسعى بعض الأفراد لترك إرث ثقافي يدوم من خلال إنشاء المتاحف ودعم الجوائز الأدبية أو رعاية المبادرات الفنية.