كانت الهجرة هي الحد الفاصل, بين عالمين, عالم يريد أن ينتصر لقوة الجسد والأهواء والتقاليد البالية, والعصبية, والعنصرية, عالم أراد للإنسان أن يكون دمية في يد النزعات والشهوات, يعيش للتنفيس عن رغباته الظاهرة والمكبوتة, وعالم أخر يريد للإنسان أن يعلي من قيمة الحق, ويجعل لقوة الروح التي تسكنه, والتي هي أولى بالقيادة, وتليق بكرامة الإنسان, ينبذ الطغيان, ويجعل العمل والتقوى هي المسار والميزان, عالم جدير بالإنتساب لله, وهو يحمل راية الحق خفاقة تسود بني البشر, كانت الهجرة فرارا من ظلمات يتخبط فيها الإنسان إلى نور هداية, يجعل للبصيرة والقلب عين ترى جوهر الحياة الصحيحة, وليس ذلك السراب والخداع الذي يضلل, ويهوي به إلى مصائر وضيعة, إنها فرار من دنس النفوس, التي كانت تتمسك به أرواحهم المكبلة بحبال الأهواء والغطرسة, إنها لم تكن هجرة لنجاة جسد النبي من القتل والفتك بأيد آثمة, وسيوف مصلتة, أجتمعت على إنتهاك روح الإنسان, والقضاء على نور الهداية, بل كانت هجرة لتنقذ أرواح إنسانية من براثن الخطايا, وتكون كلمة الله العادلة هي الحكم الأول في حياة البشر, بعد أن جرفتهم نفوسهم الضالة إلى خراب الأرواح والنفوس, كانت بداية تطهير واسعة, لروح الإنسان على يد رسول كريم, كان هو المثل الأعلى لنقاء النفوس, وطهارة الأروح, إنها النقطة الأولى في صفحة عالم جديد, ترسم خطاه يد القدر, لتعلو به, وتنقذه من وبال ما صنعته يد القوة والجبروت, كانت كفاحا مسلحا بالقيم والأخلاق, لنشر عقيدة إيمانية, وغرسها في نفوس جردتها الأزمان والأحقاب من كل غرس, حتى جعلتها صحراء قاحلة, شمسها محرقة, فكانت هي الظلال, التي يلتمس فيها الإنسان الراحة والأمن والأمان, بعد أن زعزعت أركانها سنوات الكفر والقلق, كان خطوات النبي تجتاز تلك الصحراء, ليمد يد العونة للإنسانية الشريدة, ليخط بأقلام الوحي منهجا إلهيا, تتحقق فيه عدالة السماء بين الناس, إنه الفرار من الكبوة والجمود, إلى معنى الحياة الحقيقة, النظر فيها نظر العقل والحكمة, التي لا تخطأ ولا تجور, ثلاثة أيام هي الفارق بين باطل, يطار حق, ويتخفى بين شعابها وجبالها ولهيب الصحراء, ثم يشرق على المدينة, نور البصيرة, وشمس العقيدة, فتستقبله بقرع الطبول, لتبشر به عالما جديدا, ومنها لينتشر إلى بقاع المعمورة, تنير القلوب وتضيء الأرواح, فتستقبلها القلوب الصافية, والأرواح البكر, وتأباها من طُمست على أرواحهم, وختم الشر على قلوبهم, بخاتم العداوة والبغضاء, فلا سبيل إلى قلوبهم وأرواحهم, وقد أقفرت, وقد أظلمت من حجب ماضيها, وأحجارها الصلدة التي لا تلين ولا تشعر, الهجرة كانت إشارة واضحة إلى السماء, التي نسيها الإنسان في خضم الصراعات, وكثافة الشهوات, إشارة أن يرفع عينيه إليها, بدلا من النظر إلى طين الأرض, والوحل الذي غطاه وكساه ودنس خطاه.