خرج حازم وقد صفع الباب خلفه تاركًا إياي أختنق، شعرت بغصة شديدة وبامتهان أشد، مرارة كريهة ترسبت داخلي، ألمت بي آلام الدنيا؛ مادت الأرض تحت قدميّ، عصفور صغير قُيدت أجنحته بسلاسل حديدية، فأصبح لا يقوى على الحركة وربما لا يعرف كيف يتحرك!
فاجأتني دموع ساخنة تتدفق، دموع تلهب قلبي قبل وجهي، تاهت مني الكلمات ولم أعرف ما عساي أفعل، مرت الساعات ثقيلة وكأن الزمن قد توقف عند عتبتي، لم أكن قادرة على التفكير بل عاجزة حقًا عن اختيار أي قرار، لم أشعر بنفسي إلا وقد أشرقت الشمس واخترقت أشعتها غرفتي في تحــدٍ، تنبهت أنني بقيت في مكاني على الأرض بجوار الأريكة طوال الليل.
فجأة لاحت لي من بعيد ذكرى لإحدى معلماتي، إنها أبلة "نــــورا الوردانـي"، مدرسة التاريخ في مدرستي الثانوية، كانت دومًا مختلفة عن كل من سبقنها من المدرسات بل مختلفة عن كل من حولها، رقيقة ناعمة عذبة، ذات شخصية قوية تؤثر في قلوبنا جميعا كطالبات، كانت علاقتنا قوية، فكثيرا ما كنت استشيرها في أموري الخاصة، أخصها دون غيرها بما يجول في خاطري، وفي مرحلة ما من عمري كانت أقرب لي من أمي، أما على الصعيد المهني، فقد كانت الأبرع، تشرح لنا التاريخ بطريقة مبتكرة، ترويه لنا قصصًا وحكايات ثم تناقشنا فيما حدث من وقائع تاريخية، ماذا لو لم يكن هذا؟ أو ماذا لو كان ذاك؟
تخرج بنا خارج كتاب التاريخ، بل خارج إطار المنهج والواجب والمفروض، تحلق بنا إلى آفاق رحبة بعيدة، تطلق لنا العنان لنُعبر عما يجول في خاطرنا وتناقشنا فيما لو أن لنا القدرة على التغيير.
تغيير أي شئ وكل شئ، فماذا ستكون قراراتنا؟
فوجئنا جميعا حين أخبرتنا أنها استقالت، سترحل خارج البلاد لمدة زمنية لا تعلم مداها، عللت ذلك بضرورة مرافقتها لزوجها في فرصة دراسة نادرًا ما تتوفر لمن هم في مثل عمره ولطالما تمنى بل سعى طويلا لنيل هذه الفرصة، ودعناها بدموعنا وودعتنا كعادتها بابتسامتها المشرقة وعيونها اللامعة، وعدتنا بلقاء قريب في أول زيارة لها لمصر، انتظرناها طويل لكنها أبدًا لم تــــأت!
لا أعرف حقيقة لماذا قفزت أبلة نورا أمامي لكني ابتسمت بمجرد تذكرها، نظرت إلى وجهي وملابسي وشعري نظرة سريعة دون تفحص ثم التقطت مفاتيح سيارتي عازمة على زيارة معلمتي الأثيرة وكلي أمل ألا تكون قد استقرت خارج البلاد وأن تكون قد عادت سالمة إلى مصـــر.
كان الصباح في أوله، مازالت شوارع القاهرة ساكنة، تخلو الأزقة من المارة عدا عمال النظافة، توقفت أمام المنزل وكنت أعرفه جيدًا، لقد زرتها كثيرا فيما مضى، كانت الساعة قد تجاوزت السادسة بدقائق قليلة، أعرف أن معلمتي الجميلة تستيقظ مبكرا، مبكرا جدا، ربما مع خيوط الفجر الأولى.
تعلقت عيناي بشرفة أبلة نورا حيث تتراقص بعض الزهرات الجميلة على أنغام النسيم كذلك كانت دومًا.
إنها هنــا، أبلة نورا تكره الغربة فعلا، قررت ألا أنتظر وأن يكون اللقاء حالًا، فقد اشتقت كثيرا لرؤيتها، صعدت الدرج بخطوات متلاحقة، طرقت جرس الباب وكلي شوق، لم أنتظر طويلا، فتحت أبلة نورا الباب، لم تتعرف عليّ للوهلة الأولى، لقد مرت عدة سنوات على كل حال، لكنها ما لبثت أن عرفتني، استقبلتني بابتسامتها الرقيقة، احتضنتني بلهفة ودفء كسابق عهدها هامسة: ســارة حبيبتي، اشتقتُ إليكِ، تفضلـي.
ربما كانت الابتسامة كسابق عهدها لكن صاحبتها لم تعدكسابق عهدها، لم تعد عيناها لامعة، لم يعد وجهها مشرقًا، أصبح حزينا باهتا بل هزيلا، ما عاد صوتها مفعم بالحيوية، باختصار لم تعد حيــــة!
كانت شبه ميتة، ذابلة، ظل باهت يحمل أثرًا لجمال عفا عليه الزمن، ظل يتحرك بلا روح، قلب ينبض بلا أمل، لم تكن أبلة نورا التي عرفتها بل شبحهـا!
تأثرت كثيرا بما رأيت، أدركت هي بذكائها الفطري ما يدور بخاطري؛ فجذبتني للداخل، قالت بنبرة هادئة: سنتحدث، سنتحدث كثيرا.
جلسنا في الشرفة المطلة على النيل نحتسي قهوة الصباح الداكنة بلا سكر كأيامنا الحالكة، سألتها عما أصابها وما الذي أفقدها بريق عينيها وإشراقة وجهها؟
أجابت بصوت مخنوق: لم تكن حياتي وزوجي في الغربة سهلة أبدا خاصة في الشهور الأولى، كان من العسير عليه أن يوفق بين العمل والدراسة، لم يكن وضعنا المادي يسمح بأن يترك أحدنا العمل؛ فقررت أن أحمل عن كاهل "نبيل" مسئولية البيت كاملة وألا أحمله أي أعباء أو مسئوليات حتى يتفرغ لدراسته العليا، اعتاد هو ذلك، تطورت الأمور وصرت أساعده كثيرًا في رسالة الماجستير خاصته، أساعد في عملية البحث والتدقيق وجمع المعلومات، التلخيص والمراجعة وكتابة المدونات العلمية الخاصة بالرسالة على الكمبيوتر توفيرا لثمن الكتابة في مكتب خاص بهذا الشأن، ثم زادت ساعاتي في العمل حتى يستطيع هو أن يكتفي في عمله بأربع ساعات يومية ليوفر وقتا إضافيا يستثمره في دراسته، قدمت الكثير والكثير دون أن أنتظر أي مقابل حتى حصل على الماجستير، ثم قدمت نفس الدور حتى حصل نبيل على الدكتوراه وبامتياز، تخليت أنا نهائيا عن حلمي في متابعة دراساتي العليا فلم يكن بإمكاني تحمل المزيد من الأعباء.
الأمر لم يتحمل أن ندرس كلانا في نفس الوقت خصوصا بعدما وصل ابننا الغالي، فقمت أنا بالدورين معا، الأب والأم، ثم حصل نبيل على فرصة عمل رائعة في ولاية أخرى وترقى إلى منصب لامع وبمرتب خيالي، باتت عودته إلى مصر مستحيلة، بل أنه لم يفكر فيها مطلقًا، قررت أن أكون معه في أي مكان، كنت أعشقه ورأيت أنه من الطبيعي استمرارنا كتفا بكتف ما دمنا شركاء حياة.
مرت بنا السنون، كبر ابني "علاء" وصار يسأل عن بلده وأهله؛ استأذنت زوجي في زيارة لمصر، طالت السنوات ولم نحضر للوطن إلا مرة عابرة، حين توفت أمي بعد صراع مضني مع مرض شرس، تركتها أنا تواجهه وحيدة حتى لا أترك زوجي زحيدا ولو لبضعة أسابيع أو حتى بضعة أشهر.
تركت غاليتي تواجه مرضًا دون عون مني لأنني لم أستطع ترك نبيل ولو لبعض الوقت بينما تعلل هو بعدم قدرته على ترك العمل، حضرت إلى مصر مع ابني أقضي معه إجازته الصيفية وأتجول به في آنحاء المحروسة أصنع ذكرياتٍ، أحكي وأقص ما كان هنا وما صار هناك، فهل تدرين ماذا كان في انتظاري حين عودتــــي؟
وألى القـاء في الحلقـة القادمـة.