هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • عُشٌّ جَميلٌ..
  • روح وريحان
  • العُزلة المباركة
  • الإعتراف بالأمومة
  • الحب الميت
  • من حب ربه
  • لن يعود !
  •  سأبقى كالسّنا
  • البحار مستودع الأسرار
  • أحبك يا عذابي
  • كل ليلة... أنا و ثباتي العتيد
  • على حافة الحياة
  • علاقاتي ليست للتعاون
  • أيها المسافر
  • ما لا يقال عند أوزو
  • إمراة تعيش على حمل ببالون
  • موسيقى المطر
  • هل تعلمين معنى احتياجي إليك
  • من أنت؟!..
  • أكره الحرب
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة ياسمين رحمي
  5. صرخات موميا .. قصة بقلم ياسمين رحمي

بسم الله الرحمن الرحيم

القصة مستوحاة من أحداث حقيقية

بقالي سنة كاملة في فرنسا ومع ذلك زي ما أكون لسه واصل امبارح، بصراحة مش عارف إذا كان القرار اللي أخدته صح ولا غلط، لكن طبعًا مش ببين لحد ترددي وعدم الاستقرار اللي جوايا، قدامهم كلهم ببان ثابت، واثق من نفسي، كإني حتى مبسوط ومستمتع بالحياة هنا..

مش عارف ليه مش قادر اتأقلم، دربت نفسي كتير قبل ما أجي وأخدت القرار بعد تفكير عميق، مش بين يوم وليلة يعني، ده حتى هم مصدقين، كلهم مصدقين، أنا اللي لسه لما ببص في المراية بشوف واحد غريب، واحد ملوش علاقة بيا، ملامحه مش ملامحي، نظرته غير نظرتي، هيئته كلها، مش أنا، مش أنا..

لما اتسألت عن الماضي بتاعي جاوبت إني كنت عايش في مصر من طفولتي، بس أنا أصلًا مش مصري، أنا من تركيا، جيت مصر وأنا عندي 11 سنة، في البداية لقيت صعوبة في التأقلم، من ناحية اللغة والعادات والطبايع المختلفة، خصوصًا إن مصر بلد مفتوحة لكل الجنسيات، فيها الطلاينة والأرمن واليونانيين والسودانيين، وده خلاها متنوعة، كل مجموعة من الناس ليهم طبع ونظام مختلف، وبالنسبة لي ده كان مربك جدًا، مش قادر أحدد للمصريين نظام ولا أحطهم في فئة معينة، ولحد ما كبرت الوضع متغيرش كتير، لحد قبل ما أجي مباشرة..

زود على ده إني كنت حريص جدًا أحافظ على الحدود ما بيني وبين الناس، مختلطش على قد ما أقدر، مكنتش عايز أندمج، طبع عيلتي ومكانتنا دعمت موقفي في الانعزال عن المجتمع المصري، وزي ما أبويا أخد لقب البشوية أنا كمان أخدته، أول ما بقيت شاب أخدت اللقب، بقيت "عثمان باشا"، حتى بعد اللي مصر قدمته لينا رفضت إني أتنازل واتعايش مع المصريين، صحيح إحنا كنا عايشين كويس جدًا في تركيا، لينا مكانة عالية ومرفهين، لكن في مصر وضعنا كان أحسن كمان بكتير، من الناحية الاجتماعية والمادية، وبعترف ما بيني وبين نفسي إني كنت مبهور بمصر، إنها كانت بجد جميلة، أجمل بلد شافتها عيني.

وخلال الفترة اللي قعدت فيها هناك اتعلمت كذه لغة من ضمنهم الفرنساوي، اتدربت كتير عليها، واتكلمت بيها مع أسرتي واصحابي ومدرس الفرنساوي لحد ما لساني أخد عليها وبقت زيها زي التركي، بتكلمها أحسن من العربي كمان، فمن الناحية دي مواجتهش أي مشكلة، بفهم وبتكلم مع الفرنساويين بمنتهى السلاسة، المشكلة مش في اللغة، في حاجز، يمكن الخوف.. هو نفسه الحاجز اللي فضلت عايش بيه من زمان، إحساسي إني مش بنتمي لأي مكان، دايمًا غريب في بلاد غريبة، مش بس الأماكن، الأشخاص كمان، عمري ما حسيت إني قريب بجد لحد، عمري ما قدرت أكون على طبيعتي قدام حد، ولا أحكي كل اللي بيدور جوايا، حتى لأمي واخواتي وأقرب الناس ليا، أكيد ده ليه علاقة باللي حصل زمان...

كان لازم أتخطى ارتباكي وتوتري وخوفي وخجلي وإحساسي بالعجز، خلاط المشاعر ده كان لازم أتخلص منه يأما مكنش هيبقى ليه لازمه، هجرتي والتمن اللي دفعته كان هيروح في الأرض، جمدت قلبي ودمي السايب الهربان من عروقي، ودفنت كل مشاعري المضطربة في أعماق أعماقي وبدأت أنفذ اللي كان في بالي من وقت كبير..

الماركيز فرانسوا كان بالنسبة لي هدف سهل وده عشان هو أصلًا اللي كان عنده فضول يتعرف عليا من وقت، هو اللي دبر لقاء ما بيني وبينه مرة واتنين وأنا كنت عامل حواجز وبتعامل معاه برسمية شديدة، مكنتش عايز أتخلى عن حذري، كنت برد على قد السؤال، لأ أقل منه بشوية، مش بديله تفاصيل عن أي حاجة، مش عايزه يحس إننا صحاب، بس ده كله كان على وشك إنه يتغير..

أنا اللي المرة دي سعيت أقابله، بعت خادم من خدامي راح ليه برسالة، محتواها هو إني بدعوه لشرب الشاي في القصر بتاعي الساعة 12 الضهر بالظبط..

النظرة اللي كانت على وشه لا تقدر بتمن، تحمس غريب، كإنه انتصر عليا، أخيرًا بشكل سحري الحاجز اللي ما بيني وبينه اتحرك شوية، وبقى في أمل إنه يقدر يعديه، أظن الماركيز كان من النوع الفضولي، اللي بيبقى شايف حد غامض زيي ثروة، مادة غالية وليها قيمة، زي الدهب المدفون جوه المناجم، واللي عشان نقدر نجيبه بنعمل مجهود جبار وبنقدم تضحيات، بنجمع ديناميت وبنفجر في جوف الأرض وممكن جدًا نخسر أرواح وبندفع فلوس كتير، أو زي المومياوات اللي بتتشحن من مصر بتكاليف رهيبة وبوسايط كتير ومن خلال شبكة كبيرة من المعارف وعصابات خطيرة وأكتر من وسيلة نقل، والمخاطرة إن العملية تتكشف في أي مرحلة من مراحل النقل، كل ده عشان مرحلة فك الكتان من على الموميا..

وهو ده بالظبط الموضوع اللي خلاني أتشجع واعزمه، مكنتش واثق إذا كان هيقول لي على اللي بيحصل، العمليات اللي متأكد إنها بتتم هنا في فرنسا، لكن معنديش دليل عليها، "فك الكتان"، اللي سمعته إنه بيبقى من أعظم الفعاليات، مناسبة علية القوم بيتجمعوا فيها، بيفضوا نفسهم مخصوص عشانها، وكتير بيحاولوا يكونوا جزء من الفعالية، لكن مفيش غير الارستقراطيين، الصفوة بس هم اللي بيقدروا يوصلوا، يتجمعوا ويشهدوا اللحظة العظيمة..

رحبت بيه، كنت ودود جدًا، ودود بزيادة، أكيد كنت بمثل، طول الوقت حاطط قناع على وشي، انا ابعد ما يكون عن كده، كل الوقت اللي كنت ببتسم فيه ابتسامتي الواسعة، كنت بشد عضلات وشي بالعافية عشان شفايفي تتحرك، كل الكلام اللي قلته كان تافه، أنا حتى مش فاكره، كان كل هدفي إن الماركيز يقتنع إني صديق، إني أستحق أكون من دايرته القريبة ويقدر يثق فيا.

في وسط الكلام اعتذرتله عن إنشغالي الفترة اللي فاتت، من وقت ما جيت فرنسا، واتحججت إن ده كان بسبب إني لسه مكنتش مستقر، عشان النقلة الكبيرة والتغيير في كل حاجة، كنت زي اللي اتخبط خبطة كبيرة وفقد التوازن بتاعه وبيحاول يقف على رجليه ويمسك نفسه.. وبعدين قلت:

=أنا عايز أتعرف على ناس تانية، ناس زيك، مثقفين وراقيين، ممكن تدخلني في الدايرة بتاعتكم؟

-دايرة؟

=قصدي، دايرة صحابك، زي ما قلتلك، السنة دي كلها أنا كنت متخبط جدًا وأخيرًا بدأت استقر، وأدركت إني مفتقد عنصر مهم جدًا هنا، الصحاب، مينفعش أي حد فينا يعيش من غير صحاب، ولا إنت إيه رأيك؟

ابتسم ابتسامة خبيثة، مردش عليا علطول، مسك الفنجان بتاعه وأخد شفطة وبعدين رد:

-أيوه، ايوه، أكيد، الصحاب مهمين جدًا، ده الواحد ممكن يتجنن من الوحدة، بس مش أي صحاب، الصحاب اللي هيفيدوا، اللي هيضيفوا.

=يعني إيه؟

-يعني تخرج من وحدتك وتلاقي حد تتكلم معاه وتعمل معاه نشاطات، بس في نفس الوقت يفيدك، ميبقاش عالة عليك أو بيضيع وقتك في كلام فاضي.

=مهو الصداقة في حد ذاتها فايدة، هروب من سجن الوحدة، خصوصًا مع واحد ظروفه زيي، مش متجوز ولا في أولاد يشغلوه.

هز راسه يمين وشمال وقال:

-مش مقتنع.

=طب فهمني أكتر، استفيد إزاي، أنا راجل معايا ثروة وأخدت لقب البشوية في مصر، يعني كمان السلطة

 والنفوذ، مين ممكن يزودلي وهيزودلي إيه؟

ساب الفنجان وقرب مني، عنيه وسعت عالآخر، مكنتش بتطرف، اتقشعرت، منظره كان مرعب، قال بنبرة حادة وصوت واطي:

-لو إنت فاكر إن اللي عندك ده نفوذ تبقى غلطان، ده ولا حاجة!

معلقتش، فضلت باصص ليه، مستني تفسير، مستنيه يكمل..

-وبعدين النفوذ زايل بزوال البني آدم نفسه أو زوال صحته أو لما يدبل مع الأيام.

=وهو في حاجة دايمة؟

-لأ طبعًا، بس في حاجات ممكن تستمر، تفضل كتير، الزمن يبقى مجرد عنصر يخليها تخمر وتبقى أغنى وأجود وأحلى، زي الخمور كده لما بتتعتق.

=أنا حقيقي مش فاهم أي حاجة يا مسيو فرانسوا، كلامك كله ألغاز، وأظن انك بتهزر معايا.

-أبدًا، بالعكس، أنا بتكلم جد جدًا، النفوذ عايز شباب يحميه، صحة وعنفوان وقوة الشباب، يأما يبقى وقته قليل جدًا، متلحقش تستمتع بيه، زي ما مش هتلحق تستمتع بأي حاجة في الدنيا، يدوبك ترمش تلاقي العمر عدى قدامك.

=وإحنا يعني لما نمسك في الشباب، الشباب هيمسك فينا؟ مهو برضه العمر هيعدي، ونصحى في يوم نلاقي شعرنا طقطق أبيض وسناننا وقعت وصوابع إيدينا ملناش تحكم فيها، ورجلينا تخبط في بعديها، وندور على حاجة نستند عليها وفي الآخر زي ما قلت هندبل ونموت، عشان ندي فرصة للي بعدينا يبدأو هم كمان دورتهم في الدنيا، هي دي سنة الحياة.

-غلط، غلط! المفروض منقبلش بده، منستسلمش بالسهولة دي، لو قلتلك إن في ينبوع للشباب، ينبوع حقيقي، تصدقني؟

=أكيد لأ، معقول حد في مستوانا الاجتماعي والثقافي يصدق في حاجة زي دي؟ ده إحنا كمان في بلد العلم والعصر التنويري، ينبوع إيه وخرافات إيه؟

قام زي التور الغضبان، دبدب إيديه الاتنين على الطرابيزة وزعق:

-دي مش خرافات وأنا عندي الدليل!

=دليل؟

ارتبك، واضح إن ثورته خلته يقول حاجة المفروض مكنش يقولها..

=تقصد إيه بعندك دليل؟

-قصدي، في ناس بثق فيهم حكولي، أنا صحيح مشفتش الينبوع، وممكن أصلًا ميبقاش ينبوع، حاجة شبهه، ليها نفس الأثر، لكن اللي بيغيظني الإنكار لأي حاجة مش مادية أو مش مثبتة علميًا، رأيي إننا بقينا متطرفين جدًا ومتمسكين بالأدلة والإثباتات لدرجة الجمود، عقولنا وقفت، مبقاش في تخيل أو إبداع، والإسلوب بتاعنا ده هيخلينا عاجزين عن إكتشاف اسرار الوجود والأرض اللي احنا عايشين عليها، ببساطة هنتعمي، عشان مش كل حاجة في الدنيا ليها أدلة، يعني إحنا كنا قادرين نمسك الهوا قبل ما نثبت وجوده؟ حاجات كتير بدايتها التخيل والتفتح والاستعداد، الاستعداد لأي حاجة جديدة وغريبة عنا، فاهمني؟

=فاهم كلامك الأخير بس كلامك في العموم مش راكب على بعضه، حاسس إن في أجزاء ناقصة عشان تربط الأفكار ببعضها، ومع ذلك يا سيدي أنا عن نفسي منفتح ومستعد لأي كلام هتقولهولي بعد كده، المهم تقول لي معاه الأجزاء الناقصة اللي هتربط الدنيا ببعض عشان أفهم كويس.

معلقش..بعدين فتحنا في مواضيع تانية، مواضيع منطقية، عادية، عن أحوال الناس، والدنيا اللي بتتغير بسرعة والقوى الجديدة اللي بتحل محل قوى قديمة زي الولايات المتحدة والعملة بتاعتها اللي فجأة قيمتها عليت وبقى ليها قوة في سوق المال العالمي..

.........................

اتفاجأت بزيارة من الماركيز، لا كلمني ولا بعتلي حد ولا جواب يحدد فيه معاد، ظهر على باب بيتي وخبط، كان باين عليه إنه متحمس ومتوتر في نفس الوقت، مستناش إني أقول له يدخل ولا بص في وشي، دخل علطول وقعد في نفس الصالون بتاع المرة اللي قبلها.

بدأ كلامه علطول من غير الرسميات المعتادة، لا سألني عن صحتي ولا أحوالي، سألني إذا كنت فاكر كلامنا من المرة اللي فاتت، قلتله أكيد فاكر، رد عليا وهو بينهج من التحمس كإنه بيجري:

-أنا قلتلك إني في ناس قريبين مني بثق فيهم حكولي عن حاجة زي ينبوع الشباب، ليها نفس التأثير، بس مش دي الحقيقة، أنا نفسي جزء من التجربة، عشتها، محدش حكالي!

=لأ، أنت تهدى بقى وتحكيلي عن التجربة دي..

بعدها قمت وعملتله شاي بالأعشاب، مشروب كده يرخي الأعصاب عشان يركز كويس وميسبش أي تفاصيل..

قال لي إنه هيحكيلي أصل القصة بس في مناسبة تانية، اللي حكهولي بقى إنه اتوصل مع مجموعة من أصحابه، رواد العلم ورجال أعمال وسياسيين وأصحاب رؤوس المال المتحكمين في اقتصاد فرنسا لإكسير الشباب اللي يمد في عمر الواحد لحد ما ينسى إنه فاني، الإكسير ده عبارة عن مومياوات! مومياوات ملوك مصريين عاشوا من آلاف السنين، المومياوات بتطحن لحد ما تبقى مسحوق يتوزع ويتخلط مع مواد تانية وتركيبات وبتتحط في مشاريب أو مع بهارات على أنواع مختلفة من الأكل وبالهنا والشفا!

وشي كان معبر كفاية، منطقتش...

-يا عثمان باشا أنا وصحابي مكبرناش يوم واحد من ساعة ما بدأنا ناكل المومياوات، واقولك على حاجة، تأثيرها بيبقى أقوى لو أكلتها زي ما هي من قبل ما تطحن وتتخلط مع مواد وأعشاب وأي حاجة تانية!

=بتاكلوا مومياوات فرعونية؟ هو ده ينبوع الشباب؟

-وممكن نشرب دم وناكل أعضاء حية لو اتأكدنا إننا بكده هنفضل شباب وبصحتنا!

كان باين عليا الصدمة والقرف وأظن إن ده شجعه اكتر، كإني هدف ليه، عايز يجرني للجماعة بتاعته ويخليني أعمل الحاجة دي اللي شايفها مقززة، وهو ده بالظبط كان غرضي!

الصدمة والاشمئزاز مكنوش حقيقين وده لإني سمعت قبل كده بأكل المومياوات، الموضوع مكنش جديد عليا يعني، وأدركت في مرحلة ما إن الماركيز شخص فضولي وعنيد وكل ما يشوف مني عدم تصديق أو استنكار هيبقى عنده رغبة أكبر إني أكون جزء من التجربة، ده بالإضافة إنه برغم الشخصية اللي راسمها لنفسه إنما في الحقيقة هو شخص ساذج وسهل جدًا يتلعب بيه!

-أنت معانا الحفلة الجايه!

=حفلة؟!

-حفلة فك الكتان.

=إيه بقى ده؟

-فك الكتان عن الموميا لأول مرة، في موميا لقوها في مقبرة جديدة لسه مكتشفينها من كام يوم، والموميا خلاص اتشحنت على السفينة وف طريقها لينا، الحفلة هتبقى الحد اللي جاي، اعمل حسابك، هتكون من الحاضرين..

مستناش مني إجاية، قام علطول بعدها ومشي.

أنا مدعو لحفلة فك الكتان...

مكنتش مصدق نفسي، أنا هكون هناك، هشهد الحدث الكبير ده وبجد هبقى جزء من التجربة؟

..................

البوابة من بعيد كانت تقبض، كان واقف جنبها عدد من الخدم اللي بيستقبلوا الزوار، فتحولي البوابة على آخرها ودخلت، كنت قاعد جوه عربة بتجرها حصان بسواق، المسافة ما بين البوابة وباب السرايا كانت كبيرة أوي، مقدرتش أقاوم، بصيت جنبي على الساحة، كان عندي فضول أعرف ليه كل المساحات دي، كان في جنينة ضخمة ممتدة، فيها أشجار كتير بأنواع مختلفة من الفاكهة وزهور وحشيش مقصوص ومهذب، وكان في نافورة كبيرة جواها تمثال لراجل، المفروض إنه راجل، لكن شكله كان مقبض، بعد ما ركزت حسيت إنه مش إنسان، ملامحه حادة وعنيه جاحظة، مناخيره مدببة وفاتح بوقه على أساس إنه بيضحك، وسنانه بارزة، أطرافها مدببة وشكلها غريب كإنها كلها أنياب بتاعة حيوان مفترس، مش فاهم ده إيه، غول ولا شبح ولا كائن صنفه إيه وليه اصلًا يكون في تمثال بالشكل ده في مدخل البيت، إيه قيمته الفنية؟

وزي ما البيت اللي عبارة عن قصر كان فخم من بره برضه كان مبهر من جوه، كل حاجة فيه كانت بتنطق فخامة وأصل وقيمة عالية، من الأثاث للديكور واللوحات المتعلقة على الحيطة والرسومات اللي في السقف اللي كان جزء كبير منه عبارة عن إزاز مقوى عليه رسومات رهيبة، مشفتش في جمالها، وبرغم ده كله البيت بجنينته والمساحات اللي محاوطاه مكنش مريح أبدًا بالنسبة لي، زي ما يكون في غيمة متسلطة عليه بتحجب الشمس اللي منورة في كل الأماكن التانية، مش بس ضوء الشمس اللي كان ضعيف ومش مخترق القصر بما فيه الكفاية، الجو كمان، كإن في تراب أو رماد، مش مرئي لكن كنت قادر أشمه وأحسه، أجواء كانت غريبة جدًا!

في البداية كنت أنا وعدد قليل من الزوار اللي موجودين، شكلنا أول مدعوين وصلوا، الماركيز كان في استقبالنا، أمر الخدم يقدمولنا مشاريب وقعد معانا في صالة استقبال ضخمة، الكراسي فيها كانت كبيرة لدرجة إني حسيت إني بغطس في الكرسي اللي قاعد عليه.

أنا كنت فاكر إن إحنا بس اللي موجودين في القاعة، بالإضافة للخدم طبعًا، وده قبل ما أحس بحركة سريعة ورايا!

جركت راسي ناحية الحركة، الطرقة كانت فاضية، فضلت مركز في المصدر اللي حسيت منه بالحركة..

الماركيز قعد جنبي، بص عليا شوية وبعدين سألني عن سبب سرحاني..

كدبت، قلت إن مفيش حاجة، سرحان في اللا شيء، ابتسم ابتسامة لئيمة وبعدين قال:

-يعني مسمعتش حاجة كده ولا كده؟

أنا كنت مستغرب لما حسيت بالحركة لكن بعد ما سألني بقيت خايف..

=هو أنت كمان سمعت؟

-مش دلوقتي، لكن سمعت في أوقات تانية، وغيري كمان سمعوا.

=إيه بقى اللي سمعوه؟؟ إيه اللي عدى ده؟

-ده تلاقيه واحد من المومياوات السابقة، أو بمعنى أصح شبح الإنسان صاحب الموميا.

كان بيقول الكلام ده كإنه ييقرالي جرنان الصبح مثلًا أو بيحكي عن مسرحية شافها، بمنتهى الهدوء والسلاسة، مبقتش فاهم هو بيتكلم جد ولا بيهزر، يمكن استغل إني اتخدت وحب يعمل نمرة ويخوفني أكتر من الصوت اللي اتوهمت إني سمعته.

كمل بعدها وقال:

-بصراحة أنا مش واثق إذا كان شبح واحد ولا كذه شبح، بس الأكيد إن القصر مسكون!

=أنت بتتكلم جد؟

-أيوه طبعًا، هو الكلام ده في هزار؟

=أشباح إيه دي بقى، وإيه بالظبط اللي بيحصل في القصر؟

-عشان أحكيلك قصة الأشباح لازم ابدأ من البداية، من أول موميا اتاكلت..

كان ياما كان من أكتر من مية سنة كان في واحد مجنون بالحضارة الفرعونية، وكان فرنساوي، عالم آثار مختل، أي حد اتعامل معاه قال كده، كلامه وتصرفاته وحركاته مش مظبوطة، بيلألأ في الكلام، مش بيعرف يقول جملة على بعضها، وكلامه أصلًا مكنش منطقي ولا راكب على بعضه، يعني مثلًا تيجي تكلمه في حاجة، عن الوجبة اللي محطوطة على الطرابيزة وأنواعها المختلفة، يبقى بيتكلم معاك عن الأكل وبيمدح فيه وفجأة تلاقيه بيتكلم عن وش أبو الهول والجزء الأكبر من جسمه اللي مدفون تحت الرملة، والناس اللي حواليه على الطرابيزة ميبقاش عندهم أدنى فكرة عن اللي بيتكلم عنه، ميعرفوش إيه أبو الهول ده ولا شافوا أهرامات الجيزة ولا خرجوا عمرهم بره مدينتهم في فرنسا، أغلب الناس هنا اتعاملت معاه على إنه مش طبيعي، متأخر ذهنيًا، كذلك الحال في مصر، هناك برضه عامة الشعب مكنش عندهم ثقافة بتاريخهم وحضارتهم، ولا فاهمين لغته ولا فاهمين كلامه، يعني لو على فرض حد فيهم بيفهم فرنساوي على خفيف ومتعلم كام كلمة يقدر يتعامل بيهم مع الفرنساوين اللي بيروحوا هناك برضه مكنش هيفهم محتوى الكلام، زي ما الناس بتوعنا كانوا فاهمين معنى كل كلمة لوحدها بيقولها بس مش فاهمين المجمل، كلامه كله لوغارتيمات وألغاز!

النتيجة إنه كان وحيد، وحيد تمامًا، معندوش شريك أو زميل يشتغل معاه، مجرد عمال بيأجرهم في مصر عشان يروحوا معاه الأماكن اللي عايز ينقب فيها.

العمال كانوا شايفين إنهم بياخدوا منه فلوس حلوة على الولا حاجة، راجل مجنون بيطلب منهم يفضلوا يحفرورا في أماكن معينة، الحفرة تكبر ومفيش حاجة بتبان، تراب فوق تراب.

وف مرة من المرات راح لوحده...

راح منطقة دهشور، اللي هي كانت عبارة عن صحرا وبس، شوية أهرامات ورملة وخلا، كان عارف هو رايح فين، الموضوع مكنش عشوائي، قبل كده راح كذه مرة وحفر في كذه حته، بس المرة دي كان عنده يقين إن في بقعة معينة هيلاقي فيها اكتشاف عظيم، بدأ من الصبح بدري، حفر بنفسه، بإيده الاتنين وبفاس بدائي كحيان، وفضل يحفر ويحفر لحد ما الشمس راحت وهو مش بيرتاح، مش بيفصل ثانية واحدة، يدوبك بيشرب بوق ميه من وقت للتاني، وأخيرًا الشمس راحت تمامًا والليل خيم، طلع شموعه وقنديله ، ولع في شمعة وحطها جوه القنديل ونور بيه حفرته الضخمة اللي لسه مكمل حفر فيها، وأخيرًا حس بفراغ!

فيه فجوة في الأرض.. من غير تفكير نط فيها ونزل على مسافة كبيرة، جسمه خبط في أرض صلبة، القنديل كان لسه فوق، بالضوء الضعيف يدوبك قدر يقوم ويشوف اللي حواليه ، كان في ممر ضيق وف آخره تابوت، شال الغطا وزقه بكل قوته وجواه لقى موميا..

فضل يضحك بهستيرية، اللي قدامه دي موميا فرعونية وأكيد حواليها في أوض تانية فيها كنوز وآثار، صاحبنا المناخوليا اكتشف مقبرة كاملة!

كان صح، كلهم كانوا غلط وهو صح، مكنش مجنون ولا خياله واسع ولا بيتهيأله حاجات، إحساس عظيم لما تكتشف إنك صح وكل اللي حواليك هم اللي غلطانين، سكتك هي المظبوطة، وسكتهم آخرها سد، نظرك ستة على ستة وهم معندهمش نظر، لا بصر ولا بصيرة، وكون إنك مختلف مش معناه إنك متخلف، يجوز فعلًا تبقى لوحدك اللي صح، يجوز..

=حلو جدًا، إنجاز رهيب، وده أكيد غير مسار مهنته وحياته تمامًا.

-حلو فعلًا، بس كانت في مشكلة صغيرة.

=إيه هي؟

-هيخرج إزاي؟! دلوقتي هو نزل في حفرة عميقة، وبقى جوه مقبرة لوحده، هيطلع إزاي، مين هيسمعه وهييجي يشيله ويصقفله على الاكتشاف العظيم؟ للأسف جاك مفكرش فده قبل ما ينزل لوحده، وبعد ساعة ولا اتنين بدأ يدرك ده، والاكتشاف العظيم اتحول لقبر ضيق مقبض، مجرد قبر، قبر ليه هو!

حلقه جف، شفايفه ابيضت، الدنيا دارت بيه، وبطنه بدأت تقرصه، عطشان ودايخ وخايف وجعان، الإحساس اللي طغى على كل الأحاسيس هو الجوع، معدته اتألمت من الجوع، مفيش حواليه غير الرملة والموميا، الموميا!

جاله خاطر طرده بسرعة، فكرة مقززة...

"بعد ما خلص جملته الطرابيزة اتهزت جامد، لدرجة أن المشاريب في الفناجين وقعت عليها، بعدها سمعت صوت غريب يشبه الصفارة أو ريح هبت فجأة وخبطت في جسم خلاها تشبه الصفارة، الصوت كان للحظة بس، لحظة واحدة، لكنه كان كافي يرعبني، لدرجة إني اتنفضت من مكاني وأنا ببص على الطرابيزة اللي اتهزت"

-الله، مالك؟ ما تجمد كده، ده اللي شايفه ده ولا حاجة، خليني أكملك اللي حصل مع جاك..

الفكرة اللي اعتبرها مقززة في الأول، رجعت تاني وعششت في دماغه وكبرت، كل ما الجوع يقرصه أكتر كل ما تبقى منطقية ومقبولة أكتر، مفيش غير الموميا، هي الوجبة الوحيدة قدامه، بغض النظر عن نوع الأكل اللي هياكله والأضرار اللي ممكن تحصل له بسببه، كمان رحلته دي كلها وشقاه والذل اللي شافه على ما وصل لاكتشافه هيبقى على مافيش، لو أكلها أو أكل حتى أجزاء منها، مين هيصدق إنه اكتشف مقبرة من غير ما يشوفها؟ هيصدقوا كلامه لو مفيش أي دليل، ده هو بالذات محدش هيصدقه، الراجل المخبول أبو عقل خفيف.

بس خلاص، كل ده مبقاش مهم لما وصل لمرحلة معينة من الجوع، المرحلة اللي العقل بيغيب فيها والواقع بيختلط بالخيال، والإنسان بيتحول لكائن تاني، ميت حي، مفيش أي إشارات شغالة في الجسم إلا الجوع، الحاجة للتغذية وبس، وصاحبنا بدأ يفك الكتان وينزل على الموميا هم هم..

=أكلها..

-كل حته فيها، مسابش غير الشعر..

"عيني وقعت على إيدي، لون جلدي مكنش هو، مكنش القمحي المعتاد، كان رمادي شاحب! وصوابعي كانت رفيعة أوي، مش بس إيدي، دراعي كلها، الريحة كمان في القصر بقت أوضح، مش تراب لأ ده رماد، واللي ببص عليها وبحركها على أساس إنها إيدي مكنتش إيدي، كانت إيد موميا. صوت الماركيز اختفى، ده اللي أدركته فجأة، رفعت راسي، الماركيز فعلًا مكنش موجود ولا أي حد من المدعوين، ولا جنس مخلوق في القاعة! ضربات قلبي بدأت تزيد، بتضرب بقوة في صدري، قمت وأنا بلف حواليا زي المجنون، الناس راحت فين، راحت فين؟ مش إيدي بس، كل حاجة في القصر بقى لونها رمادي، الكنب، الكراسي، الأرضية، النجف والسقف، الإزاز، الحيطان، الضوء، المكان كله اتحول لبؤرة رماد..

بدأت أنده الماركيز، وبعدها بقيت أنده على أي حد، مشيت في القاعة وخرجت منها، الطرقات كلها مهجورة، نفس الصفارة اللي سمعتها قبل كده سمعتها تاني، مكنش شوية ريح، دي صفارة حقيقية، بس مش زي أي صفارة سمعتها في حياتي، مشفتش المصدر، وبعدها حسيت بحركة، في حاجة بتقرب مني، بتقرب، بتقرب، بقت ورايا مباشرة، وبدأت أحس بأنفاس، أنفاس كريهة، سخنة، اتشليت في مكاني، كنت متأكد إني لو اتلفت هشوفها واقفة مستنياني، وفي الآخر وبرغم رعبي مقدرتش أقاوم، لقيت نفسي بلف لحد ما بقيت في مواجتها، موميا!

الموميا واقفة مسنودة على الحيطة، الكتان كان ملفوف حواليها كلها، مفيش غير عنيها هي اللي باينة، كانت مغمضة، ثابتة، كإن في حد حطها هنا، سندها على الحيطة، من كتر ما أنا كنت تايه، مش مستوعب اللي بيحصل، مكنتش خايف! مفيش إدراك أصلًا عشان أخاف، مكنتش فاهم حاجة..

لكن ده اتغير لما عين الموميا فتحت! شعر جسمي كله وقف، قلبي نفسه كان هيقف من الخضة، رسميًا بقيت مرعوب..

بعدها أطراف الموميا بدأت تتحرك، صوابعها فكت، مبقتش جامدة، وإيديها اتحركت و دراعاتها الاتنين، وواحدة واحدة بدأت تمشي في اتجاهي.

رجعت كام خطوة لورا وبعدين مقدرتش اكمل، اتخشبت، فضلت هي مكملة مشي لحد ما وصلت قدامي مباشرة، رفعت دراعها وبقت تفك في الكتان من على وشها، شفايفها اتحركت، وخرج منها كلام، قالت:

-إيه؟ فينك؟ ليه مشيت بره القاعة وكل ده إزاي مش سامعني؟ هتودينا على فين؟؟

شكل الموميا فجأة اتغير، جلدها اتبدل وملامحها، مبقاش في كتان، بداله بدلة، اللي قدامي كان الماركيز فرانسوا!

=أنا...المكان كان مختلف، كل، كل الناس اختفت والدنيا بقت غامقة، شبه ضلمة و..خرجت هنا وشفتها.

-شفت إيه؟

=الموميا والموميا بقت أنت..

-مكنش في موميا أصلًا، دي مجرد هلاوس.

هزيت راسي جامد ورديت:

=مش هلاوس، لأ، مش هلاوس.

-طب يالا نرجع القاعة، عشان أكملك باقي القصة.

لاحظت ساعتها إن القصر بدأ يتزحم، عدد كبير من المدعوين جم، وفي فرقة وآلات موسيقية، الشمس بدأت تغيب، ومعاد الحدث الكبير قرب..

كنت متأكد إنه قصد يتجاهل اللي حكيته وإنه كمان عارف إنه بجد حصل، القصر ده مسكون، مفيش شك في كده.

كمل قصته وقال:

-بعد ما أكلها علطول حس بتغيير، جاك كان عنده ربو خفيف وطبعًا بسبب كمية التراب اللي استنشقها كان عمال يكح، لكن بعد ما أكل الموميا الكحة اختفت! فضل قاعد في المقبرة يوم كامل بعدها لحد ما أخيرًا ناس عدوا وبصوا جوه الحفرة العميقة وشافوه، جابوا مساعدة وقدروا يطلعوه، الغريب إنه بعد ما أكل الموميا ولحد ما خرج محسش لا بجوع ولا بضعف، بالعكس! طاقة رهيبة جريت فيه، الليلة اللي بعدها كان قادر يشوف كل حاجة واضحة كإنه حيوان ليلي، جاك اتبدل والسبب أكيد كان الموميا اللي أكلها..

خلال الوقت اللي قضاه في المقبرة، فكر كويس وربط الأمور ببعضها، الموميا اللي أكلها أكيد كانت بتاعة ملك عظيم من ملوك الفراعنة، الملوك اللي انتموا لحضارة العالم كله من فجر التاريخ ولحد دلوقتي مشهدش زيها، أكيد، أكيد المومياوات بتاعتهم فيها خلاصة الحضارة دي، شايلين العظمة في كل إنش في الموميا، وطبيعي لما تتاكل أو تطحن وبطريقة ما تدخل جسم حد تاني الشخص ده هيكون عنده نفس القوة والقدرات، ومن ضمنها قدرات خارقة للطبيعة لإنهم مكنوش ناس عاديين، اتعاملوا مع عالم منعرفش عنه حاجة وكان ليهم قدرات أكبر من البشر، في حجاب كان مرفوع ما بينهم وبين كون تاني غايب عننا..

=بجد؟ هو صدق كده؟

-أيوه طبعًا، عشان ده حقيقي، تقدر تفسرلي إزاي حجر الأهرامات اتنقل من مكانه كل المسافات دي وإزاي التماثيل الجرانيت منحوتة بالدقة دي، المفروض ده شغل يدوي؟ إزاي نمط النحت في كذه تمثال مظبوط بالملي، دي ماكينة يا باشا مش شغل إيد، وماكينة متطورة كمان إحنا لسه موصلنلهاش، ولو قصدك على قدرات الموميا في صنع إنسان خارق فده شاف نتايجه عليه هو شخصيًا، فورًا حس بالفرق..لما رجع مقره في القاهرة واستقر لاحظ إنه يوم بعد يوم بيتغير، ذكاءه بقى حاد وبقى مركز أكتر، قادر يعمل مهمات كتير في نفس الوقت وكل معلومة بتعدي عليه بتتحفر في ذاكرته، ومبقاش يلألأ في الكلام، حتى شكله اختلف، بقى وسيم وملامحه شكلها أصغر، جسمه فرد وبقى عنده طاقة رهيبة، تصدق إنه من بعدها اتجوز وخلف 5 أطفال..وقت اكتشافه كان عنده 43 سنة وعاش بعدها 40 سنة شكله فيهم متغيرش، مجالوش أي مرض من أمراض الشيخوخة، ومات بسبب حادثة، وقع من على ضهر حصان واتخبط على راسه ومات في ساعتها..

=مش عارف، الموضوع ده أكبر من استيعابي...

-على فكرة هو مش أول واحد، في واحدة زمان كانت عايشة في ترانسيلفنيا، واحدة من الخادمات بتوعها اتجرحت في يوم والدم بالغلط جه على إيد الدوقة، لاحظت إن التجاعيد اللي في إيديها مطرح نقطة الدم اختفت، ومن وقتها وهي بقت تدبح خادماتها واحدة ورا التانية وتنقع نفسها في دمهم عشان ترجع شباب، يعني الفكرة مش جديدة، جسم الإنسان خصوصًا لو كان إنسان عظيم وصاحب حضارة ليه قدرات استشفائية وعلاجية هايلة، وكمان بيبقى عبارة عن ينبوع شباب للبشر..

"المرة دي كلنا انتبهنا، واضح إن الكل سمع نفس الصرخة اللي سمعتها، الوشوش كلها كانت مخضوضة، مبقاش في لا كلام ولا ضحك، سكوت، سكوت تام وكمان كنا كلنا عبارة عن تماثيل متخشبة، كل واحد مشلول بنفس وضعيته الأخيرة قبل الصرخة، الموميا، هي نفسها، اللي شفتها من قبلها بشوية أو شبحها أو أيًا كان هي مصدر الصوت، مكنتش متفائل أبدًا، بس مكنش ينفع أنسحب، أنا جي في مهمة معينة ومكنتش همشي قبل ما أنجزها"

-وبس يا سيدي "جاك" قال سره لعدد من الأشخاص وهم قالوه لعدد تاني ومن وقتها ولحد النهارده بقت عادة، كل فترة صفوة المجتمع، اكتر الشخصيات المهمة في فرنسا بتجتمع على شرف فك الكتان عن الموميا للمرة الأولى، بتبقى احتفالية عظيمة زي مانت شايف، وبعد الحفلة بيوم بنجتمع ونشوف هنعمل إيه في الموميا، هناكلها، هنطحنها ونحطها في مشاريب ولا من ضمن أعشاب طبيعية ووصفات علاجية..

=وعملت معاكم إيه المومياوات اللي أكلتوها قبل كده؟

-كلنا بلا استثناء صحتنا بقت أحسن، مفيش شعراية بيضة زادت في شعرنا، والحظ السعيد بقى معانا علطول، حاجات كتير أنجزناها وفلوس زادت على فلوسنا، مناصب أعلى وسلطة وتأثير على الناس..

=عشان كلها مومياوات ملكية مش كده؟

-أومال!

=طب إيه رأيك أنا عندي قصة تانية ليك..

-الله، بحب القصص جدًا، احكي، وياريت تبقى مثيرة زي قصة جاك والموميا.

=لاا، دي مثيرة أكتر بكتير..

"في الوقت ده القصر اتملى على آخره، كل المدعوين جم، الماركيز استاذن وقام وبدأ يقول خطبة، كلام عن الخلود وينبوع الشباب اللي مش بيخلص عشان مقابر الملوك في مصر عددها زي حبات الرمل والأغلب لسه محدش اكتشفه، ولسه ياما مومياوات مستنياهم عشان يتغذوا عليها ويرتووا من عظمتها، والموسيقى اشتغلت وفي صندوق كبير ظهر، اتنين من الخدم جروه لنص القاعة وبعدين فتحوه...

كانت موميا ملفوفة كلها بالكتان..

الناس هللت وسقفت وصفرت، لكن أنا لأ، وشي اصفر، ملامحي بقت جامدة وعيني متشالتش من على الموميا...

الماركيز قعد جنبي وقال لي أحكي القصة اللي عندي..

بدأت أحكي وأنا شايف الكتان بيتفك من على الموميا..

=كان في فلاح مصري بسيط، كل يوم بيروح الأرض بتاعته يزرع ويرش ويرويها ويضرب بالفاس الأرض ويلم محصوله، لحد يوم معين، من واحد وعشرين سنة، خرج من بيته في نفس المعاد بتاع كل يوم، بعد ما صلى الفجر ومعاه ابنه الصغير، قعدوا على الأرض وفرشوا أكلهم لكن ملحقوش ياكلوه، الدنيا ضلمت فجأة، مبقوش شايفين حاجة، ده عشان في ناس غطت دماغهم بغطا قماش، كتموا أصواتهم وكتفوهم وطلعوهم على عربية بتجرها أحصنة والأحصنة جريت...

فاتت مدة ميعرفوش قد إيه لحد ما العربية وقفت، سمعوا صوت الأمواج وشموا ريحة اليود وعرفوا إنهم وصلوا مينا، اتجروا من العربية لحد سفينة، كل ده وهم لسه مغميين عيونهم، مشالوش الغطا غير لما الأب وابنه دخلوا أوضة ضيقة في الدور التحتاني من السفينة، أوضة كانت عتمة، مفيهاش غير نور ضعيف، نور الشمس اللي اتسلل من تحت الباب، أيًا كان اللي هيحصل والسبب في خطفهم مكنش خير أبدًا، ده اللي الأب والإبن أدركوه، بس مكنوش يعرفوا إن الأمر هيتم قبل ما السفينة ترسى على البر...

باب الأوضة اتفتح بعد يومين، الأب اتجر زي الحيوانات من إيديه الاتنين، وكان هو بيتشد بيصرخ في ابنه ويقول:

-خبي عنيك، سد ودانك!

مهو مكنش يعرف بالظبط اللي هيحصل له ويا ترى ده هيكون قدام الولد ولا بعيد عنه، وف كل الأحوال مكنش عايزه يسمع..

عين الولد اتعلقت بأبوه، لا غمى عيونه ولا سد ودانه، ونور الشمس اخترق الأوضة بعد ما الباب اتفتح، النور كان قوي، قوي أوي، لدرجة إن الولد كان بيرمش جامد، يمكن عشان عاش في الضلمة يومين كاملين فعينه مكنتش متعودة عالنور...

الولد شاف بوضوح اللي حصل لأبوه، ضربة جامدة على راسه، ضربة واحدة كانت كافية تطلع روحه من الجسم ويبقى جثة هامدة. وبعديها بدأوا..

-بدأوا ف إيه..

=التحنيط!

-تحنيط؟!

=تحنيط جثة الفلاح، تحنيط سريع متكروت بمواد معينة تخلي الجثة شكلها موميا قديمة بقالها آلاف السنين، وكده وكده البضاعة ليها زبون، ناس سذج فاكرين إن المومياوات اللي بتجيلهم من تجار غشاشين بتاعة ملوك فراعنة وليها قوى سحرية وبترجع الشباب تاني وبتخلي الواحد يعيش كتير..

-قصدك..

=زي الموميا دي والمومياوات اللي قبلها، كلها بتاعة ناس بسطا من عامة الشعب، بيتخطفوا، ويتقتلوا ويتشحنوا على أساس إنهم مومياوات قديمة ويتباعوا ليكم وبتاكلوهم، بتاكلوا بني آدمين دمهم لسه مبردش، نسيت أقولك، الفلاح وابنه أرضهم كانت قريبة من أرض "عثمان باشا" الراجل التركي إبن الذوات وكانوا بيشتغلوا عنده، بعد ما بيخلصوا شغل في أرضهم بيروحوله السرايا ويشوفوا طلباته، بيرعوا جنينة السرايا ويبيعوله من محاصيلهم وهكذا، عارف كافأهم إزاي؟ خطفهم وقتل الأب وحنطه عشان يبيعه في السوق السودا في فرنسا، سوق المومياوات المغشوشة ويقبض ثروة فوق ثروته، أصله كان هيعيش عمر فوق عمره، الولد الصغير مكنش مقصود، هو بس كان مع أبوه فالاتنين اتاخدوا مع بعض، لذلك بعد ما عملوا اللي عملوه قصاد عيون الطفل الصغير رجعوا الطفل تاني، بس في الحقيقة هو عمره ما رجع...

-أنت مين بالظبط؟

"أنا قلت قبل كده إني لما اتسألت عن الماضي بتاعي إني تركي وإن إسمي عثمان وذكرت كل التاريخ بتاع عثمان ونسبته ليا، هو ده اللي قلته بس مكنش حقيقي، أنا ليا علاقة بعثمان، كنت أنا وأبويا بنخدم في سرايته، أنا الطفل اللي اتخطف مع أبوه واتحبس معاه في سفينة وشافه وهو بيتقتل وبيتحنط"..

سكت لحظات وبعدين رديت عليه:

=تفتكر أنت أنا مين؟

عينه وسعت على الآخر، واضح إنه ربط الأمور ببعضها واستوعب، عرف بالظبط أنا مين، بالحسابات كده وبالطريقة اللي حكيت بيها والنظرة النارية اللي ف عنيا وصوتي المتحفز وكون إني كدبت وتقصمت دور عثمان باشا إبن الأصول..

مردش عليا، كملت وقلت:

=يا مدعين العلم والثقافة وأنتوا في حقيقتكم منقوعين في الجهل، مومياوات إيه دي اللي لما تتاكل هتجيب العظمة والشباب للي أكلها؟ أنتوا أكلي لحوم بشر، يا ريتكم يا أخي كنتوا آكلي لحوم، أنتوا آكلي مومياوات صابها العفن يا بكتيريا معششة فيها من سنين، بتاكلوا سموم أكيد هتبان نتايجها في الآخر وهتمرضوا والوباء هينتشر وينخر في أجسامكم وعضمكم، وياريت كمان بتاكلوا اللي بتطلبوه، الحقيقة إنكم بقالكم سنين بتاكلوا بشر كانوا عايشين وبيتنفسوا وليهم حياة كاملة يدوبك قبل ما توصل في احتفالاتكم بأيام بس.. أنت مش عارف أنا قعدت أحضر نفسي للمناسبة دي قد إيه، من ساعة ما رجعت من السفينة واترميت كإني جماد لا شاف ولا سمع ولا حس، لا والبجح رجع شغلني معاه في السرايا.. بقيت أسمع وانتبه لدروس ولاده، اتعلمت فرنساوي مكسر واتعلمت الاتيكيت بتاع السرايات، المشية والنبرة والسكتات، فضلت أخطط سنين وسنين وبدأت التنفيد قبل ما أجي فرنسا علطول، أول مرحلة كانت عثمان باشا، أول واحد في القايمة بتاعتي، قتلته، وبعدين طلعت على سفينة وجيت، وأنتوا كلكم، كل اللي بيحضر الاحتفالية النجسة دي كنتوا في القايمة برضه، وقدرت بغبائك وفضولك وتطلعك أوصل لكم، وشكرًا على الترحيب وحسن الضيافة، إنكم مفتشتونيش وأنا داخل، لو كنتوا فتشتوا كنت لقيتوا المسدسات اللي شايلها في جيوب الجاكته من جوه..

"ملحقش، عبال ما استوعب كنت خرجت المسدسات وبدأت المدبحة، ابتديت بيه، طلقتين في راسه وبعدين اتدورت على اللي حواليا، واحد ورا التاني كان بيقع قدامي، قتلت عدد منهم، بقى في هرج ومرج وحركة هستيرية، الناس تدافعت وداست على بعض، بيحاولوا يهربوا، يخرجوا من القصر، بعد شوية في مدعوين بدأوا يفوقوا من الصدمة ويمسكوا نفسهم، المدعوين دول كان معاهم أسلحة، خرجوها ووجهوها ناحيتي.. نهايتي قربت، خلاص، كان لازم أستسلم واسلم إن دي نهاية الخط، ف غمضة عين حياة كاملة بتفاصيلها، بلقطاتها، والناس اللي عدوا فيها، والحزن والفرح والاحياط والخوف والراحة هتخلص..

غمضت عيني للحظة، مستني الطلقات اللي هتخترقني، مستني أدخل النفق المجهول، وأعدي الناحية التانية.. سكوت، سكوت، مفيش أي صوت، معقولة اتضربت بالرصاص ومحستش؟ مفيش ألم ولا صوت طلقات؟

فتحت عيني، شفت وشوش الناس كلها متنحة في كذه اتجاه، بصيت في الاتجاهات دي ولقيتهم واقفين، مومياوات!

أيوه، مومياوات بتتحرك، إيديهم بتتلف حوالين أجسام الناس...

وبعد السكوت كانت الصرخات..

صرخات المومياوات ومعاها صرخات الناس الرهيبة.. اتحركت بسرعة، جريت لحد باب القصر وفتحته وخرجت، الباب اترزع ورايا، مش أنا اللي قفلته!

سمعت الناس بتجري وبتحاول تفتحه، لكن محدش قدر، أنا بس اللي كان مسموحلي أخرج، بس مش معنى كده إن العرض كان مفتوح، كان لازم أمشي بأقصى سرعة من المكان الملعون ده، من الساحة كلها، نطيت على عربية بتجرها الخيول، قعدت في كرسي السواق، مسكت الكرباج ونزلت بيه عليهم وانطلقنا..

أول ما خرجت من البوابة قدرت أتنفس من تاني، قدرت بعدها ابتسم وافرح وأعيش، بعد ما أخدت بتار أبويا، قدرت تاني أعيش...

"تمت"

 

 

 

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
إحصائيات متنوعة

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
3↑2الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
5↓-2الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
6↑3الكاتبمدونة اشرف الكرم
7↑1الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓-2الكاتبمدونة آيه الغمري
9↓-2الكاتبمدونة حسن غريب
10↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑59الكاتبمدونة ياره السيد80
2↑46الكاتبمدونة إيناس عراقي147
3↑45الكاتبمدونة عفاف حسين92
4↑31الكاتبمدونة أحمد زيدان57
5↑30الكاتبمدونة آية الدرديري143
6↑29الكاتبمدونة نهلة احمد حسن60
7↑27الكاتبمدونة نسمه تليمة79
8↑26الكاتبمدونة رشا كمال126
9↑24الكاتبمدونة مني العقدة39
10↑24الكاتبمدونة محمد التجاني104
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1057
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب680
4الكاتبمدونة ياسر سلمي644
5الكاتبمدونة مريم توركان569
6الكاتبمدونة اشرف الكرم557
7الكاتبمدونة آيه الغمري486
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني418
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين406
10الكاتبمدونة سمير حماد 398

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب323994
2الكاتبمدونة نهلة حمودة177906
3الكاتبمدونة ياسر سلمي172468
4الكاتبمدونة زينب حمدي166302
5الكاتبمدونة اشرف الكرم124203
6الكاتبمدونة مني امين115189
7الكاتبمدونة سمير حماد 103598
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي94693
9الكاتبمدونة مني العقدة92336
10الكاتبمدونة مها العطار85675

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة رشا ماهر2025-05-09
2الكاتبمدونة مها اسماعيل 2025-05-09
3الكاتبمدونة طه ابوزيد2025-05-08
4الكاتبمدونة آمال صالح2025-05-08
5الكاتبمدونة غازي جابر2025-05-07
6الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)2025-05-05
7الكاتبمدونة خالد دومه2025-05-03
8الكاتبمدونة أماني بالحاج2025-05-01
9الكاتبمدونة شيماء عبد المقصود2025-04-10
10الكاتبمدونة خالد منير2025-04-08

المتواجدون حالياً

770 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع