أصبحت أقسى وأقوى مما كنت.. لا أبالي بما سبق, أمضي للأمام دوماً.. كما يبدو لكم، هش سريع العطب، كما أشعر نفسي من الداخل... أشعر بأني أدور في دوائر لا بداية لها ولا انتهاء.. مغمض العينين أتعثر في أشلاء الماضي، أنكسر آلاف المرات كل ليلة... وأواجه البشر في الصباح بوجه يجاهد لإخفاء تعاستي حين ابتسم.
أصمت.. أنتظر شيئاً يؤلم بعد كل ابتسامة, حين يزور الأمل أحلامي، تحطمني الحقيقة المؤلمة..
أنتظر أشياء مجهولة، متمنياً أن تكون أفضل... ولا تحدث, تلك الحياة لا تناسبني، ولكنني للأسف لا أموت، لذلك قررت أن أغيرني، وأغيرها... حياتي المقيتة... لكنني لم أفعل إلا أن أزيدها تحطماً على ما يبدو لي الآن، شهران مضيا بعد ما حدث ... أحاول فيهما أن ألملم قصاصات كل قصصي وأرفقها بهذا الملف، كي تجتمع كل القصص التي تسببت فيما أنا فيه الآن، وأرسلها لك.
أدعى هاشم ... هاشم الدمشوري..
اسم عريق يشعرك بالعظمة والعراقة أليس كذلك؟؟
تخرجت في كلية الطب، وأعمل طبيباً نفسياً، لم أستطع للأسف أن أنقش لنفسي اسماً في سوق العمل، أعلم أنه سوق تجارى، وأنا لا أملك عقلاً تجارياً، ولا أملك معارف كثيرين حتى ينتموا إليّ ويمنحوني بصمة الشهرة، ولا حتى المال اللازم لشرائها, حيث إن ببلدك الأطباء النفسيين سبة، لا يطرق أبوابهم أحد، ولا يتكلم عنهم بشر, وإن حدث وزارهم فيتكتم على اسمه ومكانته، خشية أن تتأثر مكانته تلك بزيارته هذه, رغم أن البشر الآن بحاجة إلينا أكثر من ذي قبل.
كلما تذكرت السبب الذي صنع مني طبيباً نفسياً سَخِرْتُ من نفسي، فحين أتيت هنا كنت على يقين تام أنني مريض نفسي، ورفض عقلي الذهاب إلى طبيب ليرى ما بي. فأنا دوماً أحيا بالخيالات والرؤى منذ الصغر، أتذكر أنني رأيت كل سنوات دراستي في حلم يقظة، بما فيهم هيام التي كسرت القلب الوحيد على مشارف العام الثالث الجامعي، وتركتني بعد خوفها مني، لا أعلم ما الذي يستدعى الخوف في قصتي؟
قضاء وقدر أتى على الأخضر واليابس في حياتي!! فما ذنبي؟؟
أصررت على أن أصبح طبيباً نفسياً علّي أشخص ما بي من جنون ربما، أو مرض لست أعلمه، فضعت ما بين هذا المرض وذاك التشخيص، وشعرت كأن بي كل تلك الأمراض متعانقة، طبيب مريض لا علاج لي أبدا، ولا فكاك من المرض.
ليتني طبيب أمراض نساء، ففي كل ليلة ألف مولود، وفى كل ساعة امرأة تتوجع، أو ليتني كنت طبيب أسنان، فأكل الحصى، وابتلاع الألم أصاب جميع أسنان البشر بالعطب، كما أصاب عقولهم بالإغماء، فتحت عيادتي بكل بِشْرٍ وتفاؤل لمدة عامين، لم يزرني إلا رجل عجوز قارب التسعين، لم يفهم معنى كلمة نفسي، فأتاني يتساءل: هل تطبب نفسك؟ امنحني علمك كي أطبب نفسي أيضاً.
ابتسمت حينها من بساطته!!، لم أتصور أننا في هذا الزمن ولازال هناك من يجهل تخصصي.
يئست تقريباً وأوشكت على الوصول إلى حافة الاكتئاب، انتابتني الكوابيس والرؤى العجيبة عن أسرتي المفقودة، وروحي المنكسرة بهيام، وقلبي المحترق بهمس، وذكرياتي المنقوشة على كتفي الأيمن، كل التشويش والتشتت الممتلئ به العالم يسكن عقلي وحدي، لملمته ووضعته في شخصيتي، بدأت أشعر أنني لا أصلح لشيء، كل ما حولي محطم وباهت، لم أصل للنجاح المرجو في أي جانب من جوانب حياتي.
قررت أن أغلق عيادتي وأسافر لبلدتي المتواضعة، كي أستريح قليلاً، وأحاول بيع فيلتنا القديمة هناك، عساني أحصل على بعض المال أضيفه إلى ما تبقى لدي من ميراثي من والدي، وأسافر أي بلد عربي أو أوربي أو إلى جهنم حتى, المهم في الأمر أن أهرب من كل ما حولي، ويؤرقني منذ الثامنة عشرة، حتى الآن. ربما أهرب من نفسي، أو ربما أجدني من جديد، وأكتشف أغوار ذاتي التي لا أعرفها وأمقتها.
أغلقت عيادتي عرضتها للبيع، بعد معاناة حصلت على ثمنها، الذي لم يرضني بأية حال كما كل عمري لا يرضيني ورحلت.