أنهت حُلم مهمَّتها اليومية بإطعامِ الطيورِ العابرة،
وتسلَّلت عائدةً إلى فراشِها،
احتضنت دبدوبَها الذي تعتبرُه صديقَها،
تُحادثُه كلما ضاق بها الأمرُ أو استعصى على من حولَها فهمُها،
كانت تهربُ إليه، تسردُ له روتينَ يومِها، وتحكي له عن أحلامِها،
ومن شدَّةِ تعلُّقِها به جعلتْه مُعرَّفًا لا مجهولًا،
فقد أطلقت عليه اسم مِشمِش.
كانت تعتبرُه محلَّ ثقتها ومَكمَن أسرارِها،
حتى إنها كانت تتشاجرُ معه أحيانًا وتُخاصمُه،
لكن سرعان ما تُصالحُه،
وكانت تقولُ له بابتسامةٍ طفوليةٍ بريئةٍ:
"صافِي يا لَبَن"،
فتردُّ بضحكةٍ ساحرةٍ:
"حليب يا مِشمِش".
باختصار، كان يمثِّلُ لها أكثرَ من دميةٍ.
توجَّهت له بالحديثِ قائلةً:
ترى، من يكون؟
من هو؟ وما اسمُه؟
ماذا يعمل؟
بل لماذا لم يأخذ المبادرةَ إلى الآن؟!
كم تخيَّلتْه يقفُ على بابِ الحافلة،
أو حتى خلفَ زجاجِ النافذةِ يطلبُ منها بلُطفٍ الحديثَ معها،
كلما سمعتْ طرقاتٍ على البابِ زاد نبضُ قلبِها وتعالت دقَّاتُه،
فربما يكون هو من على الباب.
تخيَّلتْه يقفُ على البابِ يحملُ بين يديه باقةً من الوردِ ويستأذنُ بالدخول،
بل إنها كلما سمعت رنينَ الهاتفِ ورأت رقمًا مجهولًا،
تصبَّبَ العرقُ على وجهِها خجلًا،
فربما يكون هو على الطرفِ الآخر،
وقد حصل على رقمِها بشكلٍ أو بآخر.
لكن ظلَّ الحالُ كما هو، ولم يتغيَّر الوضع،
هو في الكوفي شوب يختبئ خلفَ مائدتِه ونظارتِه وبين أوراقِه وكتبِه،
وهي تختبئ خلفَ مقعدِها في الحافلة،
وتختفي خلفَ خجلِها وحيائِها.
أصبح الأمرُ الآن بالنسبةِ إليها قَدَرًا،
ولكن إلى متى سيظلُّ الوضعُ هكذا؟
فهل تراه سيأخذُ المبادرة؟
أو هل سيأتي اليومُ الذي يُعلنُ فيه عن نفسِه ووجودِه؟
متى سيتحقَّقُ الحلم؟
كان هذا آخرَ ما تتذكَّره قبل أن تغفو،
وعندما استيقظت كان الأمرُ أكثرَ ضجيجًا من ذي قبل،
الكثيرُ والكثيرُ من الأسئلةِ الحائرةِ وعلاماتِ الاستفهام،
أحيانًا كانت تشعرُ أن اليأسَ كاد يتسلَّلُ إلى روحِها،
وأحيانًا كانت تظنُّ أنها تختلقُ هذا،
وأنه لا وجودَ لكلِّ هذا إلا في عقلِها الباطن،
وفي رأسِها هي فقط.
ولكن كيف؟ وهل يُعقَلُ هذا حقًّا؟
أكادُ أجنُّ!
ماذا أفعل؟ هل أختلقُ كلَّ هذا؟
هل هو حقيقةٌ أم خيال؟
في النهايةِ حسمت أمرَها، وقرَّرت أن تروي كلَّ شيءٍ حدث معها
لأقرب الناس إليها،
لصديقتِها المقرَّبةِ وأحبِّ الأشخاصِ إلى قلبِها،
ولِمَ لا، وهي من كانت دومًا معها وقتَ الشدائدِ والمِحن؟
مرَّت عليهما اللحظاتُ السعيدةُ وهما معًا،
وفي اللحظاتِ المؤلمةِ لم يفترقا،
كلتاهما كانت تمثِّلُ ثنائيًّا فريدًا،
وكانتا مضربَ المثلِ في الحبِّ والإيثارِ والتضحية،
ومحلَّ دهشةٍ وإعجابٍ للجميعِ لأخلاقِهما الراقية.
وهذا كلُّ ما حدث —
كانت هذه العبارةُ هي نهايةَ حديثِها الطويلِ مع صديقتِها فرح.
تنهدت فرح تنهيدةً طويلةً قبل أن تقول بنبرةٍ مشككةٍ:
وهل يُعقَلُ هذا يا حُلم؟
هل أنتِ بكاملِ وعيِك؟
هل أنتِ واثقةٌ أن هذا حدث بالفعل،
وأنكِ لا تروين لي حلمًا رأيتِه أثناءَ نومِك؟
ردَّت حُلم بانفعالٍ واضحٍ:
وهل هناك حلمٌ يتكرَّرُ يوميًّا وبنفسِ التفاصيل؟
هل أنتِ لا تُصدِّقينني حقًّا؟
ردَّت فرح بصوتٍ خافتٍ وهي تُشيحُ بنظرِها بعيدًا:
ليست المسألةُ أنني لا أُصدِّقكِ،
ولكن يبدو لي الموضوعُ أقربَ إلى الحلمِ أو الخيالِ منه إلى الواقع.
ردَّت حُلم بنبرةٍ واثقةٍ تحملُ من التحدي والحسم الكثير:
حسنًا يا فرح،
أنتِ ستكونين معي بالغد،
ستأتين معي لتُشاهدي بنفسكِ،
ولتعلَمي أنني ما زلتُ بعقلي،
وأنني لا أهذي أو أتخيَّل أو أختلقُ هذا.
ردَّت فرح بدهشةٍ وضحكةٍ خافتةٍ:
أنا أذهبُ معكِ؟!
وما شأني أنا بذلك؟!
لكن هل تعلمين؟ هناك حلٌّ واحدٌ يضعُ حدًّا لكلِّ هذا.
قالت حُلم متسائلةً بلهفةٍ:
بالله عليكِ، أخبريني بسرعةٍ، كيف يكون ذلك؟
حقًّا، أكادُ أجنُّ!
فرح: ما رأيكِ بتناولِ فنجانٍ من القهوةِ السادةِ التي تعشقينها؟
حُلم — بلهجةٍ غاضبةٍ وعاتبةٍ في الوقتِ نفسه —:
وهل هذا وقتُ المزاح؟
أنا أُخبركِ أنني أكادُ أجنُّ، وأنتِ تطلبين مني تناولَ القهوة؟!
فرح — مستدركةً حديثَها —:
مهلًا صديقتي، لا تتعجَّلي الأمر،
وانتظري حتى أُكمِلَ عبارتي.
ما قصدتُه هو أن تتناولي فنجانًا من القهوةِ في نفسِ الكوفي شوب!
حُلم — وكأنها تتحدثُ من عالمٍ آخر —:
كيف هذا؟!
فرح — وهي تشعرُ أنها قد أقنعتْها بكلامِها وتريدُ معرفةَ التفاصيل —:
الأمرُ ببساطةٍ يا صديقتي،
أنكِ ستغادرين الحافلةَ عندما تتوقفُ عند الإشارة،
وبهدوءٍ وثقةٍ ستذهبين إلى الكوفي شوب،
ومن ثم تطلبين فنجانًا من القهوةِ اللذيذةِ التي تعشقينها،
أيتها المدمنة!
ردَّدت حُلم كلماتِ فرح وهي لا تعي ما حولَها:
أغادرُ الحافلة، وأذهبُ إلى هناك، وأتناولُ فنجانًا من القهوة؟
فرح: هل رأيتِ؟ الأمرُ بهذه البساطة.
فرح: حُلم، حُلم، حُلم، حُلم!
أين ذهبْتِ؟ هذه رابعُ مرةٍ أناديكِ ولا تُجيبِين!
حُلم — وكأنها قد أفاقت لتوِّها —:
ماذا تقولين؟ هل أنتِ مدركةٌ لما تقولين؟
لن أفعلَ هذا بالتأكيد!
ماذا سيظنُّ بي؟ بالتأكيد لن أفعلَ هذا!
فرح: لقد قلتُ ما عندي،
هذا رأيي، وتظلِّين أنتِ صاحبةَ الرأيِ الأخيرِ والقرارِ النهائي.
واسمحي لي بالمغادرة،
سأذهبُ اليومَ إلى دارِ الأيتام لتحفيظِهم بعضَ الأجزاءِ من القرآن الكريم،
فاليومُ دوري، ولا تنسي غدًا يأتي دورُكِ أنتِ أيتها الساحرة!
لا أدري حقًّا ماذا فعلتِ للأطفالِ هناك،
إنهم يعشقونكِ بجنون.
خرجت فرح بعد أن استودعت صديقتَها،
والتي لا تدري هل ردَّت عليها أم لا،
لكن صوتَ ارتطامِ البابِ عند إغلاقِه جعلَها تنتفضُ بشدة،
وهي تتوجهُ إلى قفصِ العصافير لتُطعِمَهم.
نظرت إلى العصافير تُحدِّثُهم بصوتٍ حالِمٍ:
ترى ماذا يُخبِّئُ لي القدر؟
ترى ماذا يُخبِّئُ لي القدر؟
ــــــــــــــــــــــ
يتبع
آية عطية عبد الفتاح الغمري
آمال محمد صالح احمد
ايمان سعد عبد الحليم بسيوني
منى أحمد محمد إبراهيم
د. زينب عبد السلام محمد أبو الفضل
هند حمدي عبد الكريم السيد
نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري
يوستينا الفي قلادة برسوم
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
ياسر محمود سلمي
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 



































