جلس الأستاذ في قاعة تحقيق غريبة، لم يكن يعرف كيف وصل إليها. الغرفة بلا نوافذ، والجدران مكسوّة بصور ضخمة لأختام رسمية، كأنها أيقونات مقدسة في معبد قديم. أمامه طاولة طويلة، يجلس خلفها رجال بملامح صارمة يرتدون نظارات سميكة.
اقترب أحدهم من الطاولة، رفع دفتر التحضير ولوّح به في الهواء قائلاً:
ـ أهذه أوراقك يا أستاذ ؟ دفتر به أوراق غير مختومة، وغير مُرقمة ! كيف تجرؤ على التدريس بغير بركة الختم؟
ارتبك ، ثم تمتم بصوت خافت:
ـ حضرتك… كان الختم مع زميل آخر..أقصد أني نسيت!"
انفجر أعضاء اللجنة في ضحكة مكتومة تحولت بسرعة إلى عبوس. فتح آخر كراسة تلميذ، رفعها وكأنه يحمل دليل إدانة دامغ:
ـ صفحة كاملة بلا تصحيح! كيف تنام ليلك؟ أين ضميرك ؟
كاد يبكي وهو يتمسك بآخر خيوط الأعذار:
ـ "كنت… كنت أنوي التصحيح بعد الحصة ، والله العظيم!"
هنا تدخل الثالث، يحمل دفتر الدرجات، يقلب أوراقه ببطء ثم يرفع رأسه بجدية قاتمة:
ـ نصف الدرجات ناقصة! هل ذاب التلاميذ في الهواء؟ أم أن أسماؤهم تآكلت ؟
شهق :
ـ لا يا سيدي… لم يختفوا… كنت فقط أبحث عن قلم الحبر الأزرق…!
ساد صمت ثقيل، ثم تقدّم رئيس اللجنة، رجل ضخم بوجه يشبه ختم الدولة نفسه، وضرب الطاولة بمطرقة خشبية ضخمة:
ـ جرائمك التربوية لا تُغتفر. دفتر بلا ختم، كراسة بلا تصحيح، درجات ناقصة… الحكم واضح.
ارتعد ، وقال بصوت مبحوح:
ـ حكم ماذا؟
أجاب الرئيس ببرود مرعب:
ـ تحويلك إلى فضيلة المفتي… ليفتي في شأنك!
صرخ بأعلى صوته:
ـ المفتي؟! لاااااااااا!
لكن قبل أن يكتمل صراخه، انطفأت الأنوار، وغمره ظلام كثيف. سمع في الأفق صوت الأذان يعلو، فانتفض من سريره، يتصبب عرقاً، يلهث وكأن قلبه على وشك الانفجار.
لم يصدق للحظة أنه مجرد كابوس. هرع إلى شنطته الجلدية القديمة، أخرج دفاترها المبعثرة، جلس على الأرض كالطفل الخائف، يُرقم الصفحات ، يصحح صفحات الكراسة واحدة تلو الأخرى، ويملأ دفتر الدرجات بخط مرتجف.
كان يتمتم بين كل ورقة وأخرى:
ـ "لن أتركهم يرسلونني للمفتي مرة أخرى… لن أتركهم…"