لم تكن الحاجة نبيهة تملك من هذا العالم أكثر من نوافذ ثلاث تطلّ على شارع هادىء، وأثاث قديم تعرفه كما تعرف خطوط كفّها، وذاكرة تصحو كل صباح على صوت الكنبة الخشبية كلما تحركت عليها.
وحدتها لم تكن ثقيلة كما يتخيلها الآخرون؛ بل كانت رفيقة صامتة، تقاسمها الشاي، وتقلب معها محطات الراديو الذي لم يعد يلتقط سوى تنهدات الزمن.
ذات صباح، حين دفعت ستائر النافذة بيد مرتجفة، رأت شيئًا لم تألفه.
النافذة المقابلة التي ظلت مغلقة منذ شهور، فُتحت أخيرًا.
ظهر ضوء خافت، وتحركت ستارة بيضاء كأنها أول أنفاس بيتٍ يستيقظ من سباته.
شعرت بحاجة غريبة إلى الحديث، إلى أن تُرى، إلى أن تترك أثرًا ولو خفيفًا في حياة ساكن تلك الشقة الجديدة.
جلست إلى طاولتها الخشبية، وأخرجت ورقة نقشتها أصابعها بحنين قديم للكتابة.
كتبت رسالة قصيرة، لا تعرف لمن توجهها، لكنها كتبت.
(سيدي الجار،
لا أعرف من أنت، لكنني رأيت نورًا يخرج من نافذتك هذا الصباح، ولعله أسعدني أكثر مما ينبغي.
اسمي نبيهة، أسكن الشقة المقابلة منذ ثلاثين عامًا، وقد غادرتني الأصوات كلها.
لا تقلق، لن أزعجك، فقط وجدت في الضوء الذي انبعث من نافذتك شيئًا يشبه الحياة.
لك التحية،
جارتك : نبيهة.)
وضعت الرسالة في ظرف أبيض، وكتبت عليه:
"إلى جار النافذة المضاءة."
ثم دفعتها تحت الباب المقابل.
في مكان آخر من العمارة، كانت روان، الطفلة ذات العشر سنوات، تصعد الدرج ببطء بعد عودتها من المدرسة، تجر حقيبتها الصغيرة كما لو أنها تحمل فيها عمرًا أثقل من عمرها.
توقفت عند الظرف الأبيض الذي جذب انتباهها.
لا اسم، لا طابع، لا أحد ينظر.
التقطته.
جلست في عتبة منزلها، وفتحته.
قرأت الرسالة بصمت مرتين، ثم طوتها كمن يضم سِرًا بين راحتيه.
شيء في نبرة الرسالة جعلها تشعر بأنها كُتبت لها، لا لجارٍ غريب.
وفي مساء ذلك اليوم، كتبت أول رد في حياتها:
(جارتي العزيزة نبيهة،
أنا لست الجار الذي قصدتِه، بل أنا روان، أعيش في الطابق الأول.
وجدت رسالتك، وقرأتها، وشعرت بشيء جميل.
نافذتك أيضًا فيها ضوء، لكنه ضوء يشبه القمر.
هل تحبين الحكايات؟ أنا أحبها.
أخبريني عنك، وسأخبرك عن عالمي)
ورسمت في نهاية الرسالة زهرة بسيطة تشبهها.
ثم في المساء، تسللت بخفة، ووضعت الرسالة تحت باب الحاجة نبيهة.
في الصباح، حين وجدت نبيهة الورقة، قرأتها بسرعة، ثم أعادتها إلى صدرها كأنها تحملها دفء العالم كله.
شعرت بأن الباب الذي ظنته قد أُغلق نهائيًا، انفتح قليلًا.
ولأول مرة منذ سنوات، وضعت الماء على النار لتعد شايًا لشخص غيرها، ولو كان غائبًا.
كتبت لها:
(روان،
لم أكن أظنك أنت، لكنك كنت أجمل من كل توقع.
نعم، أحب الحكايات...
كنت أكتبها ذات يوم، قبل أن يأخذني الزمان ويزرعني هنا.
سأحكي لك عن ابنتي ليلى، كانت في مثل عمرك، ثم غادرتني في ربيعها العشرين.
منذ ذلك اليوم، لم أكتب، ولم أفتح النافذة كثيرًا...
لكنك، يا روان، جعلتني أفعلها.
شكرًا لأنك قرأتي رسالتي )
وهكذا، بدأت المراسلات.
واحدة في الصباح، وأخرى في المساء.
نبيهة تحكي عن بيتها، عن الباعة الذين رحلوا من الحي، عن النور الذي كان في الأشياء قبل أن يغيب.
وروان تحكي عن مدرستها، عن حصة الرسم التي تحبها، عن أختها الصغيرة التي تبكي كثيرًا، وعن والدتها التي لا تبتسم إلا نادرًا.
رسائل قصيرة، لكنها كانت تنسج بين نافذتين خيطًا خفيًا من الحنان.
وفي إحدى رسائلها، كتبت روان:
(أتمنى أن أزورك، لكن أمي لا تحب أن أخرج كثيرًا.
تقول إن الناس ليسوا كما يبدون...
لكنني أراك كما أريد أن أكون، صبورة، هادئة، وكأنك تعرفين شيئًا عن العالم لا أحد يعرفه.
هل كنتِ مثلي حين كنت صغيرة؟)
ضمت نبيهة الورقة، ولم تكتب شيئًا ذلك اليوم.
بدلًا من ذلك، جلست إلى كرسيها، وحدقت في النافذة.
رأت الشارع نفسه، لكن بعين مختلفة.
تساءلت: هل يمكن لحياة كاملة أن تُعاد كتابتها عبر نافذة؟
مرت أيام، ثم أسبوع، ولم تأتِ رسالة.
روان كانت تنتظر.
كل صباح، وكل مساء، كانت تمر أمام الباب وتحدّق في العتبة.
لا شيء.
وفي اليوم الرابع، كتبت بخط صغير:
(هل أنتِ بخير؟ اشتقت إلى نافذتك.)
ثم وضعت الرسالة بلطف، ومضت.
لكن الباب لم يُفتح.
وفي المساء، اجتمعت الجارات عند الباب ذاته، وهمس أحدهم:
_وجدناها... نائمة في كرسيها، كأنها تنتظر رسالة جديدة.
لم تصرخ روان.
لم تبكِ أمام أحد.
لكنها، في مساء ذلك اليوم، جلست إلى طاولتها الصغيرة، وكتبت الرسالة الأخيرة:
(جارتنا العزيزة نبيهة،
قالوا إنك رحلتِ، لكنني لا أصدق.
أظن أنك فقط ذهبتِ إلى نافذة أكبر، تطلين منها على العالم كله.
سأكتب إليك كلما شعرت بالوحدة، وكلما رأيت ضوءًا يشبه ضوءك.
شكرًا لأنك علمتِني كيف يُرى الناس من الداخل.
صديقتك دائمًا،
روان.)
وفي اليوم التالي، صعدت الدرج وحدها، ووضعت الرسالة على حافة النافذة التي لم تُغلق بعد، ثم عادت أدراجها.
وكان الضوء ما زال يأتي من النافذة.