في قاعة فسيحة بيضاء، لا نوافذ فيها ولا ساعات، جلس الطلاب على مقاعد متشابهة، أمام أوراقٍ بيضاء خُطّت فيها أسئلة واحدة، بذات الترتيب وذات الصياغة. فوق السبورة، كُتبت جملة كبيرة بخطٍ عريض: "الاختبار واحد، لكن ...!!"
دخل المعلم، رجلٌ في منتصف العمر، ملامحه محايدة كأنها لا تنتمي لزمن، عيونه تلمع ببصيرة غريبة، كمن يرى ما لا يُرى.
بدأ الامتحان.
مرّت الدقائق، بعضها ثقيل، وبعضها خفيف. رفع بعض الطلاب رؤوسهم بسرعة، وانهمك آخرون في الكتابة كمن يفرّغ دمه، بينما جلس بعضهم صامتًا كمن يواجه جدارًا لا يمكن تسلقه.
في الصف الأول، جلس "ث-ج" مرتديًا بذلة أنيقة، يتنقل بين الأسئلة بثقة، فقد قرأ عنها من قبل في الكتب التي حازها بسهولة، واستشار فيها معلمين خصوصيين، وحياته لم تعرف انقطاع كهرباء أو اضطرابًا في نوم.
وفي الصف الأوسط، كانت "م-ح" تنظر في الورقة بعين قلقة. لم تكن الأسئلة صعبة عليها، لكنها تحمل همّ أخيها المريض في المستشفى، وأباها الذي يعمل في ورديتين لتأمين لقمة العيش. عقلها مشتت، وقلبها منهك، لكنها تحاول.
وفي الزاوية الخلفية، جلس "ف-م"، بملابس بالية ورائحة تعب قديم. لم يملك قلما سوى ذاك الذي التقطه من الطريق، ولم يتذوّق إفطارًا ذلك الصباح وكل صباح. عينه تمرّ على الكلمات كمن يقرأ لغة غريبة، ليس لأنه جاهل، بل لأنه لم يتعلم كما ينبغي. كبر في بيئة لم تؤمن أن هناك متسعًا للحلم.
انتهى الوقت، وجمع المعلم الأوراق بصمت. لم يُبدِ رضا ولا خيبة، فقط نظر إليهم جميعًا وقال:
_غدًا ستُعلَن النتائج. لكن تذكّروا، التقييم في الرحلة !!
في اليوم التالي، دخل الطلاب القاعة منقسمين بين قلق ومتفائل ولا مبالٍ.
وزّع المعلم الأوراق، وعلى كل ورقة لم تكن هناك علامات بل كلمات:
• ورقة "ث_ج": "أجبت جيدًا، كما توقّعَت ظروفك. لكنك لم تضف جديدًا."
• ورقة "م_ ح": "أجبت بصدق، رغم زحام الألم. لم يكن أداؤك كاملا، لكنه كاشف عن نورٍ داخلك."
• ورقة "ف _ م": "كتبت كلمات قليلة، لكنها كانت صادقة. لم تكن تملك المعرفة، لكنك حاولت أن تفهم، وهذا أول الطريق."
وقف "ث _ج قائلا:
ــ كيف يتفوق من كتب القليل مثلي؟ أنا أجبت عن كل سؤال!
أجابه المعلم بهدوء:
ــ نعم ، هذا صحيح،لكن هل تعبت كي تصل؟ أم كان الطريق ممهّدًا؟
اعترضت "م_ح":
ــ وهل هذا عدل؟ ألسنا جميعًا في اختبار واحد؟ كيف يحصل "ف_ م" على نفس درجاتنا؟
هزّ المعلم رأسه:
ــ "الاختبار واحد، نعم. لكن البعض بدأ من القمة، والبعض من السفح. أليس من الإنصاف أن أراعي المنحدر الذي تسلقه كل منكم؟"
ساد صمت. بدا المفهوم غريبًا، لكنه تسلّل إلى القلوب.
أكمل المعلم، مشيرًا إلى لوحة سوداء كتب فيها:
"العدالة ليست أن تعطي الجميع نفس الدرجة، بل أن ترى من أين بدأ كلٌ منهم، وإلى أين وصل."
صمت ثم نظر لهم فى هدوء ، وغادر المكان..
وفى القاعة، لم يعد أحد كما كان منذ قليل.
كأن العالم انتهى، وبدأت حياة جديدة..