ليست النثرية نزوة لغوية، ولا تمردًا على إيقاع القصيدة فحسب؛ إنها صوتٌ آخر للدهشة، وجهٌ آخر للشعر، حين يتخفّف من أوزانه ولا يفقد ثقله. في قصيدة النثر، لا نتكئ على البحر الخليلي، بل نسبح في فراغ اللغة، ونصنع الموج بأنفسنا. هي كتابة تقيم في المسافة بين الشعر والسرد، في حقلٍ لا حدود له، يُنبت المعنى حين يُزرع الشعور لا الوزن.
الجذور التراثية للنثرية: بين الصوفية والحداثة
النثرية ليست طارئة على الشعر العربي، وإن بدت كذلك في عيون من يحاكمها بمقاييس العروض أو التقاليد. لقد كانت إرهاصاتها واضحة في مواجيد المتصوفة، حيث تحرّرت الكلمة من القيد الشكلي لتنطلق في فضاء التأمل الروحي. في نصوص النفريّ: "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"، أو في اندفاعات الحلاج حين قال: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا"، نجد بذورًا للنثرية التي ترفض أن تكون القوافي سجنًا للمعنى.
بل إننا لو عدنا إلى "رسالة الغفران" للمعري، أو بعض مقامات الهمذاني، لوجدنا ذلك الخيط الخفي الذي يربط بين النثر الفني القديم وحداثة اليوم. الفرق أن النثرية المعاصرة قد تخلّت عن الزخارف اللفظية، واكتفت بحفر اللحن في العمق، دون أن تعلن عنه في السطح.
قصيدة النثر: ولادة من رحم التحوّل
وُلدت قصيدة النثر الحديثة من رحم الوعي المتفجّر في القرن العشرين، حين لم تعد القصيدة العمودية أو حتى الشعر الحرّ قادرين على احتواء تحوّلات الذات والواقع. هي ابنة شرعية لأزمة اللغة في مواجهة العالم الجديد. لم تكن رفضًا للشعر، بل إعادة تعريف له: ففيها تتجاور اللغة اليومية مع المجاز، البوح مع الفلسفة، الهامش مع المركز.
لكنّ اللافت أن قصيدة النثر، رغم تحررها من الوزن، لم تكن فوضوية. هي تشبه "النهر الجاري" الذي يبدو عشوائيًا في جريانه، لكنه يحفظ في أعماقه قانون الجاذبية والانحدار. إيقاعها داخلي، يُدرك بالقلب لا بالأذن، ويُقاس بصدق التجربة لا بعدد التفعيلات.
الإيقاع الخفي: بين السهولة المزعومة والعُمق الحقيقي
يتّهمها البعض بأنها "كتابة أيّ أحد"، لأنها لا تخضع لمعايير خارجية. لكنّ الحقيقة أن النثرية الأصيلة أصعب مما يُظن، فهي مثل مشي الحافي على حبلٍ بلا شبكة أمان. لا تُنقذها من السقوط إلا قوة الصورة، وصدق التجربة، وتماسك الرؤيا.
لعل أكبر مثال على ذلك نصوص أنسي الحاج في "لن" أو أدونيس في "الكتاب"، حيث تتحوّل اللغة إلى كائن حي، ينبض بإيقاعٍ داخلي يُشبه دقات القلب. أو انظر إلى نزار قباني حين ينتقل من الشعر الموزون إلى نصوصه النثرية في "أبجدية الياسمين"، دون أن يفقد نغمة صوته. حتى نازك الملائكة، رائدة الشعر الحر، كتبت نصوصًا تقترب من التأملات النثرية، مما يؤكد أن الحدود بين الأجناس الأدبية أكثر مرونةً ممّا نتصوّر.
وظيفة النثرية: حمْل الوجع الجديد
النثرية ليست ترفًا أدبيًا، بل ضرورةٌ وجودية. هي اللغة التي تُعبّر عن تشظّي الذات الحديثة، عن صدمة الحروب، عن غربة الإنسان في العوالم الرقمية. هي قادرة على التقاط الهمس الداخلي الذي تعجز عنه القصيدة التقليدية أحيانًا.
في نصوص محمود درويش النثرية مثل "في حضرة الغياب"، أو في كتابات سنية صالح، نرى كيف تتحوّل النثرية إلى فضاءٍ للذاكرة والضياع. هي مرايا مُتشظّاة تعكس زمنًا لم يعد مُتماسكًا، وهذا ما يجعلها الأقدر على تمثيل روح العصر.
الخلاف حولها: ابنة غير شرعية أم ثورة ضرورية؟
لا يزال بعض النقاد يعاملون النثرية كـ"ابنة غير شرعية" للشعر، لكن التاريخ الأدبي يُثبت أن كل تحوّل كبير واجه رفضًا في بدايته. الشعر الحرّ نفسه تعرّض لهجومٍ شرس قبل أن يُصبح جزءًا من الموروث.
المعيار الحقيقي ليس "الشرعية" بل "القدرة على الإمتاع والإقناع". النثرية تثبت حضورها حين تمسّ مشاعر القارئ، وحين تقدم رؤيةً جديدة للعالم. كما قال محمود درويش: "الشعر ليس شكلًا، بل رؤية".
ختامًا: النثرية كـ"تنفّس" للكلمات
أكتب النثر ليس لأنه أسهل، بل لأنه يُشبه تنفّسي. في نصّي النثري أكون عاريًا من الأقنعة، حرًا من التصنّع. النثرية الحقيقية ليست انحدارًا من الشعر، بل صعودًا إليه من بوابة أخرى.
هي ابنةٌ شرعية للغة العربية، لكنها ترفض أن تعيش في ظلّ آبائها. تريد أن تُحدّثنا بلغة اليوم عن ألم اليوم، دون أن تخون جماليات الماضي.
وكما قال ريلكه: "الشعر ليس مشاعر.. الشعر خبرة". والنثرية، في نهاية المطاف، هي شكل من أشكال الخبرة التي تُقاس بمدى ما تخلقه من اهتزازٍ في نفس القارئ، لا بعدد مقاطعها أو حروفها.
فهل تحتاج قصيدة النثر إلى دفاعٍ عن شرعيتها؟ ربما لا. فما يبقى من الأدب هو ما يُحرّك المشاعر، وما يغوص في الأعماق، سواءٌ كان موزونًا أم مُتحررًا. والباقي هو ضجيجٌ عابر.