ليس كلُّ غائبٍ نسي، ولا كلُّ حاضرٍ بقي.
الغياب في جوهره ليس مسافة تُقاس بالأميال، بل هو صمتٌ طويل يسكن تفاصيل القلب.
هو تلك اللحظة التي يمر فيها طيفٌ بذاكرتك، فتبتسم وأنت لا تدري أتبكي أم تشتاق.
الغياب امتحانٌ للروح؛ من يملك الصبر ينجو، ومن يُرهقه الانتظار يذوب في صمته.
في الغياب تتحدث الأشياء بصوتٍ خافت، فالمكان ذاته يفتقد ملامحه، والوقت يتثاقل خطاه كأنه يجرّ خيبةً لا تنتهي.
حتى الضوء يبدو باهتًا، وكأن الحنين غطّاه بغيمٍ لا يمطر.
الغياب ليس فقدًا فقط، بل كشفٌ صادق لما تبقّى في الداخل.
حين يغيب أحدهم، يظهر من كنّا حقًا بالنسبة له، ومن كان نحن بالنسبة إليه.
في حضرة الغياب تُختبر القلوب، ويُعرَف الفرق بين من كان يسكنك حبًا، ومن كان يمرّ بك عادةً.
ولأن الغياب مدرسة، فهو يعلّمنا أن لا أحد يبقى كما هو.
الذين عادوا لم يعودوا تمامًا، والذين انتظروا لم يعودوا كما كانوا.
كل غيابٍ يترك فينا بصمة، وندبة، ودرسًا لا يُنسى.
ربما نكره الغياب، لكننا نحتاجه أحيانًا لنفهم الحضور حق الفهم.
فلا يدرك معنى الضوء إلا من ذاق عتمة الغياب، ولا يعرف عمق اللقاء إلا من ذاق طعم الفقد.
وفي النهاية...
يبقى الغياب لغةً لا يفهمها إلا من كتب سطرًا منها في ذاكرته،
ولعلّ أجمل ما فيه، أنه يجعلنا نُقدّر مَن لم يغب قط، رغم بُعد المسافة.








































