أقف تحت أشعة الشمس الحارقة في وسط الزحام الشديد، وقد تكدست الشوارع بالسيارات؛ فهذا وقت عودة الموظفين إلى منازلهم. بدأت أشعر بالضيق، وبعد مرور قرابة ربع ساعة، جاءت سيارة أجرة فأوقفتها وركبتها وأنا أشعر بالخوف الشديد، فهذه أول مرة أركب سيارة أجرة بمفردي.
أمسكت هاتفي وقمت بإجراء مكالمة هاتفية للاطمئنان على والدتي ولأشعر أيضًا بالاطمئنان وانزعاج الخوف الذي بداخلي، أجابت بصوتٍ دافئ، كم أشعر بالراحة والأمان عندما أستمع إليه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخبارك يا ابنتي؟"
رددت وابتسامتي تزين ثغري: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أنا في زحام، من النعم الحمد لله، طمئنيني عنك يا أمي.
فقالت: بخير الحمد لله يا حبيبتي.
دار بيننا حديث طويل، لكنني كنت أرى أن السائق ينظر إليّ من وقت لآخر، ولم أفهم هذه النظرات، وبدأ الخوف يملأ قلبي، كنت أود أن أستوقفه، فأغلقت الخط مع والدتي حتى لا تشعر بمدى خوفي من نبرة صوتي.
فور انتهاء المكالمة، وجدت السائق يقول لي: فهمت من حديثك أنها والدتك، أنتِ محظوظة بها جدًا.
شعرت أنه يود أن يتحدث مع شخص ما ويخرج ما بداخله، فنظرت له باهتمام أحثه على استكمال حديثه، فاستكمل حديثه والدموع تترقرق في عينيه: أمي توفت منذ عشر سنوات، وكان عمري حينئذ تسع سنوات، وحتى الآن عيني لم تجف من البكاء عليها، أتذكر تفاصيل موتها ولحظة خروج الروح منها، وأتذكر دائمًا التابوت الذي وضعت فيه، وصورتها لا تفارق خيالي، وأدعو لها دائمًا، وكم أتمنى أن أموت وألحقها، أشتاق لها كثيرًا، وأريد أن أراها، ولا أستطيع أن أعيش حياتي بصورة طبيعية منذ وفاتها إلى وقتنا هذا، أراها دائمًا أمامي، وذكرياتي معها لا تفارق خيالي، قبل وفاتها كانت بداخلي أحلام وطموحات، لكن منذ وفاتها أسودت في عيني الحياة، وأشعر أنه ليس هناك سبب للعيش لأجله، كنت متعلقًا بها لدرجة كبيرة، وأغلبية وقتي كان معها.
وجدت نفسي أجيبه والدموع تغرق وجهي: رحمها الله وغفر لها، وأسكنها فسيح جناته، وهي الآن في مكان أفضل من هذه الدنيا الفانية، ولكن عليك أن تفكر بإيجابية وتفعل أي شيء كانت تطلبه منك والدتك في حياتها مرارًا وتكرارًا، كأن تتخذ قرارًا بالنجاح وإكمال عمل الخير الذي كانت تفعله والدتك، ولا تنهي عمل والدتك بالحزن والغم، بل استأنف عملها في الدنيا بصدق، سواء بإخراج صدقات أو زيارة أحد أحبائها، وكلما شعرت بالوحدة والحزن، فكر بإيجابية وقم بعمل كانت تحبه ويرضيها.
فوجدته يبتسم لي ويتفوه بعبارات الامتنان والشكر لسماعي له وحديثي معه، مسحت دموعي التي لم أشعر بها وتحدثت معه بتساؤل: من كلامك فهمت أنك تبلغ من العمر تسعة عشر عامًا؟
فأجابني بهدوء: نعم، هذا عمري الآن.
فقلت له بفضول: إذن، فلماذا تعمل على سيارة أجرة؟ يجب أن تستكمل تعليمك حتى تفرح والدتك بنجاحك.
أجابني بابتسامة: حسنًا، فأنا الآن طالب بكلية تجارة، لكن والدي مريض هذه الفترة، وأنا أعمل بدلًا منه حتى أتمكن من جمع بعض النقود لمعالجته.
أجبته بحزن وشفقة: ربنا يتمم شفاءه على خير.
ظللت أفكر في كيفية مساعدته، وأنا أشعر بالحزن الشديد والفخر أيضًا بهذا الشاب المتعاون المحب لوالده، نظرت للطريق بشرود، وبعد مرور بعض الوقت، وجدت أنه يخبرني بوصولي إلى منزلي، شكرته وأخرجت من حقيبتي مبلغًا من المال يعادل مائتين جنيه، فأخبرني بعدم وجود فكه معه، فابتسمت له وقلت: هذا المبلغ لك، ولو كان معي ما يزيد لأعطيته لك.
فنظر لي نظرات خجل، وكاد أن يرفض هذا المبلغ البسيط، لكنني طرقته وغادرت دون الاستماع له.








































