استكمالا لمسيرتنا الحافلة حول موسوعية علماء الحضارة الإسلامية نعيش اليوم مع أحد أعلام القرن الرابع الهجري، الذين بزغت شمسهم وسطعت أنوارهم في ميادين العلوم المختلفة والفنون المتعددة، مع إمام الأندلس العلامة الموسوعي أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي.
ولد في «مجريط» والتي تُعرف الآن بمدينة «مدريد»، ونشأ بها، وكان عالمًا موسوعيًا جامعًا بين جنانه وبيانه علوم المشرق والمغرب، متصدرًا في علوم الفلك والرياضيات والكيمياء والحيوان والفلسفة.
نال شهرة واسعةً في الأولين والآخرين، في الشرق وفي الغرب، فتناولته أقلام الغرب ودراساتهم أكثر مما قام به العرب والمسلمون تجاهه.!
ومن ذلك ما قاله ديفيد يوجين سميث في كتابه (تاريخ الرياضيات): «إن أبا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي، كان مغرمًا بالأعداد المتحابة، ومشهورًا في تفوقه على غيره من علماء العرب والمسلمين في الأندلس بعلمي الفلك والهندسة».
وقال جورج سارتون في كتابه (المدخل إلى تاريخ العلوم): «إن أبا القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي نال شهرة عظيمة بتحريره لزيج الخوارزمي وإضافاته البَنَّاءة له، وصرف تاريخه الفارسي إلى التاريخ الهجري، ووضع أوساط الكواكب الأول تاريخ الهجرة وزيادته فيه لجداول جديدة».
وذكر فلورين كاجوري في كتابه (تاريخ الرياضيات): أن أبا القاسم المجريطي نبغ في نظريات الأعداد، ولا سيما فيما يتعلق بالأعداد المتحابة، وله مؤلفات قيمة في علمي الحساب والهندسة.
وقال سيد حسين نصر في كتابه (العلوم والحضارة في الإسلام): «عُرف المجريطي عند الأوروبيين بأنه أول مَنْ علق على الخريطة الفلكية لبطليموس ورسائل إخوان الصفا، والجداول الفلكية لمحمد بن موسى الخوارزمي، من علماء العرب والمسلمين في الأندلس، وكان له شهرة عظيمة في الرياضيات والفلك، إضافة إلى ما ناله من احترام وتقدير لمجهوداته الجيدة في علم الكيمياء».
وهذه كلها شهادات من كبار مؤرخي العلوم في حق هذا الرجل، تؤكد موسوعيته ونبوغه في مجالات متعددة كالفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء.
وليس الأمر يتوقف عند هذه الشهادات - مع كفايتها - بل كان له حضور مشهود في باب التصنيف والتأليف.
فله في الكيمياء: كتاب «رتبة الحكيم» وكتاب «غاية الحكيم»، وقد تناولنا هذان الكتابان بالتفصيل في كتابنا «رحلة الكيمياء في الحضارة الإسلامية».
كذلك له في هذا الباب عدة كتب في الأحجار الكريمة، مثل كتاب «مفخرة الأحجار الكريمة».
كما يُعد المجريطي هو أول مَنْ أشار إلى قانون «بقاء الكتلة»، كما ذكر الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه «روائع الحضارة العربية ص280» خلال تعليقه على تجربة أكسيد الزئبق، فيقول: «كان أبو القاسم المجريطي يتوقع تغيرًا في الوزن في تجربته، لذا يمكن القول أن المجريطي هو واضع أسس الاتحاد الكيماوي المعروف باسم قاعدة بقاء الكتلة أو بقاء المادة، والتي تقول أن مجموع كتل المواد الداخلة في أي تفاعل كيميائي مساوٍ لمجموع كتل المواد الناتجة من التفاعل...ولكن للأسف أنَّ علماء أوروبا ينسبون قاعدة بقاء الكتلة لكل من بريستلي ولافوازيه».
وفي ذلك يقول عمر رضا كحالة في كتابه (العلوم البحتة في العصور الإسلامية): «ومن الذين اشتغلوا بالكيمياء بالإضافة إلى عمله بالرياضيات والفلك، أحمد بن مسلمة المجريطي، وله في الكيمياء أعمال طيبة تدل على مبلغ عنايته بالأمور العلمية وتضلعه فيها».
وله في الفلك: رسالة في الأسطرلاب، وشرح لكتاب المجسطي، وكتاب «اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني».
وشارك في ترجمة كتاب «خارطة النجوم» لبطليموس، كما ساعد المؤرخين في إعداد جداول لتحويل التواريخ الفارسية إلى سنوات هجرية.
وكانت له جهود وأبحاث عظيمة في تطويره بعض التقنيات في علمي المساحة والتثليث.
وكان أول من لاحظ «نجم المليك» في عام 979م.
وفي ذلك يقول القاضي صاعد الأندلسي في كتاب طبقات الأمم: «كان المجريطي أعلمَ ممن كان قبله يعلم الأفلاك، وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بتفهم كتاب بطليموس المعروف بالمجسطي ...».
وله في الرياضيات: كتاب «ثمار العدد»، وكل كتاباته لا تخلوا من الحسابات الرياضية، لدرجة أنه كان يرى أن مادة الرياضيات مادة ضرورية لطالب الكيمياء، لأن الرياضيات بطبيعتها تستند إلى التفكير المنطقي والاستنتاج الدقيق.
من أجل ذلك كان يُلقب بـ «إمام الرياضيين العرب» في الأندلس.
وفي ذلك قال القاضي صاعد الأندلسي في طبقاته: «صنف أبو القاسم المجريطي كتابًا رائعًا يبحث في الحساب التجاري والمعروف أنذاك بحساب المعاملات، وبقيت نظريات المجريطي في الرياضيات تدرس في جميع جامعات الغرب والشرق على السواء».
كما كان عالمًا بالفرائض - تقسيم المواريث - كما قال ابن بشكوال في كتاب "الصلة": «كان المجريطي عالما بالفرائض مشهورا بمعرفتها .. ولم يكن في الأندلس مثله في علمه».
وله في علم الاقتصاد: كتابًا عن الضرائب واقتصاد الأندلس.
وله كتاب في الطبيعيات وتأثير النشأة والبيئة على الكائنات الحية.
وله في الفلسفة الإسلامية كتاب «الرسالة الجامعة».
وكتب في التاريخ وفي غير ذلك من فروع العلم والمعرفة.
والحقيقة أن سيرة المجريطي العلمية ومسيرته حافلةٌ بالإسهامات والإبداعات، ومتوَّجةٌ بالإنجازات، التي يحتاج لدراستها شهور وربما سنوات.
لكن نكتفي بما ذكرناه في إبراز هذه الصفة التي نريدها في بحثنا، وهي صفة «الموسوعية» التي اتضحت جليةً في إمامنا المجريطي الذي جمع بين الفلك والرياضيات والفرائض والهندسة والتاريخ والاقتصاد والطبيعة والكيمياء والفلسفة.
فياليتنا نكونُ مثل هؤلاء في موسوعية علمهم، وغزارة فكرهم، وسيلان عطاءهم، وما ذلك على الله بعزيز.