ماتتْ جدّتي _رَحِمَها اللَّه_ في يومٍ لم أَكُن أتوّقع أنَّهُ آخر عهدها بالدُّنيا؛ كُنتُ مشغولةً جدًّا بأمرِ التقديم للجامعة، فجهّزتُ أوراقي وثيابي، ثُمَّ جلستُ أُنصتُ لأحد البرامج التعليمية آنذاك، بينما أُمّي قد ذهبتْ إليها بصُحبةِ إخوتي، لتزورها دونَ عِلمها بأنَّها تحتضر.
بعدَ ذهابهم بنصفِ ساعة تقريبًا سرتْ البرودة بأطرافي، وقُبِضَ قلبي، وضاقَ صدري، وتعصّبتْ نفسي دونَ مُبرر حتّى أنَّني تركتُ الطعام من يدي قبلَ أنْ يدلفَ جوفي.
رغم كُلّ ما حَدَثَ لي إلَّا أنَّني لازلتُ جاهلةً السبب، حتّى جاءني أخي وقال لي: مريم قد ماتتْ جدّتكِ وأنا وابنُ خالكِ سنأتي لها بالطبيبِ؛ كي نتأكد، ثُمَّ ذهبَ وقد تماسكَ كَعهدِ الرّجال في المصائب.
حينها توّقفَ عقلي حرفيًا، وضاعَ الكلامُ منّي، غير جملةٍ واحدة؛ كيف تموتُ جدّتي؟!
أمَّا عن قلبي فقد شُّقَ نصفينِ بعدما كانَ مقبوضًا.
أسرعتُ إلى خِزانة الملابس فارتديتُ زيّي كاملًا وسُبحانَ الواحد الستّار!
حتّى قفازي وحذائي قد اِرتديهم أيضًا، وهرولتُ من البيتِ إلى بيتِ جدّتي الذي يبعُد عنّا بثلاثةِ شوارع، نَظَرَ الأطفالُ إليَّ فهمسوا لبعضهم: رُّبما أصابتها مُصيبة جعلتها تُسرعُ الخُطى هكذا.
لم ألتفت لهم وأكملتُ سيري داعيةً رَبّي أنْ يكونَ الخبر كاذبًا وأنْ تكونَ جدّتي على قيد الحياة.
وصلتُ شارعَ جدّتي وأنا على أملٍ أنْ تكونَ جدّتي لازالتْ على قيدِ الحياة، حتّى إذا ما وقفتُ على أعتابِ بيتها، خافتْ نفسي، وذرفتْ عيناي دونَ أنْ أشعُر، دلفتُ فوجدتُ أخوالي جالسينَ بجوارِ أُمّي، نظرتُ إلى أُمّي فرأيتُ الدمعَ ينهمرُ من عينيها،خِفتُ أكثر ومع ذلك أسرعتُ لغُرفةِ جدّتي فوجدتها مُسَّجاة.
مددتُ يدي دونَ وعيٍ منّي وكشفتُ عن وجهها، فشهقتُ باكيةً وسقطتُ بجانبِ رأسها بعدما خارتْ قُواي.
أحسستُ في تلكَ اللحظاتِ أنَّني قد فقدتُ وعي، كما فقدت الشعور بالزمكان، ويكأنَّ الدُّنيا قد وفقتْ عندي.
أبكي بُكاءَ اليتيمِ الذي فقدَ أبويهِ لا أحدهما، أبكي دونَ صراخ، أبكي في صمتٍ بعدما دسستُ رأسي بحجري لينهمر دمعي، ولتذرفَ عيناي جمر قلبي.
أبكي دونَ توّقفٍ، أبكي وحسب، رُّبما كُنتُ أبكيني دونَ عِلمي؛ إذ كُنتُ بحاجةٍ إلى جدّتي أكثر من حاجتها إليَّ.
رأتني زوج خالي فخشيت عليَّ، فأخبرت أخوالي بأمري، ممّا جعلهم يُسرعونَ إليَّ، ساعدني خالي (أبا طه) على النهوضِ بعدما طبطبَ عليَّ، وساندني حتّى أجلسني خارج الغُرفة، ثُمَّ ذكّرني باللَّهِ العليِّ العظيم.
تمزقَ قلبي ذلكَ اليوم، وعَرِفَ الوجع طريقهُ من حينها، لم يؤلمني قلبي قبلها، وبموتها دقَ ناقوس الألم قلبي.
تماسكتُ قدر المستطاع بعدما استعنتُ باللَّهِ، ثُمَّ منعتُ النسوة من النواح وما خالفَ هَدي سيدنا مُحمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مِثلِ هذا الأمر.
أضحى لونُ آنفي ناصع الحُمرة، بينما عيناي تغيّرَ لونهما لذات اللون، والصوتُ كُتِمَ بصدري ويكأنَّهُ أقسمَ ألَّا يخرجَ إلَّا بذكرِ اللَّهِ همسًا لأُهوّنَ على نفسي.
اللهمَّ اغفر لجدّتي وارحمها واجعل لها في الفردوس الأعلى من الجنّةِ مقعدًا وسائر موتى المُسلمين يا ربّ.