هل ستطاوعني خطوتي هذه المرة وأقترب –حقا- منهما؟! فوّتُ على نفسي –واقعيًا- عشرات الاحتمالات للظّفر بدقيقة معهما، كانت مُمْكنة؛ في حفلات التوقيع، أو في كل تلك الندوات والأمسيات المكتظة بطلابهما ومحبيهما. تخونني خطوتي المتعثرة، المتجمدة، دائما، فهل يُؤّهلني موج الروح لاختراق الطبيعة الآن، ولإيصال صوتي لهما؟!
-( هل يُشكّل الموتُ حاجزًا أم أنّه على النقيض، يُسقط حجابًا؟) (6)
لم يكن سؤالها – الذي سمعته منها بعذوبة وترحيب- استفسارًا، بقدر ما كان تأملًا؛ يُقلّص خجلي، ويخلقُ لي براحًا؛ يستقبل حوارًا، قد يدور بيننا. لكنه أثار لديّ أيضًا شجونًا كثيرة، وتساؤلاتٍ أكثر. أردتُ أن أسألهما مثلا عن الموت، وعن مايكتبه تميمهما (7) بشأنه. عن الحداد والسواد، وكيف يُشعرني كل ذلك ومحبيهم بالقلق والوجع. احترت من أين أبدأ أسئلتي! هل أسأل عن الكتابة؟ أم عن الخوف؟ أم أنّ تجاوز الألم والفقد أوْلَى؟ هل يجوز لي أن أسأل عن الحب؟ أم أن الوطن هو الأبْدَى؟ أشعر أني تائهة، ظمآنة، في صحراء تُحرقني بصهدها، وبغبارها الملتهب -كامنًا كان أو هائجًا- تُصعّب عليّ رؤية الدليل بيقين!
_(إن الصحراء والشمس في هذه الرواية هما المعبر الخطر والحتمي معا إلى رحابة الحياة) (8)
قالت جملتها وهي تحرك نظرتها بين عينيّ وبين الأمام على امتداد الخطو في الرمال، وإلى الأعلى على ارتفاع الجبال. استعدتُ تفاؤلي بها، كما هو دومًا. هل تواتيني الجرأة، أخيرًا، فأعبّر عن شغفي بهم؟ وكيف عرفتهم، ثم أصبحت مولعةً بهم! أراهم، معًا؛ كعناق الحب والحُلم، أشعر بهم رضا الحياة، وإقبالها -علينا- منبسطة الساعدين؛ إبداعًا ونضالاً. ذلك الحُضن الرّحب، المُطَمئِن، الذي يضمنا في قلبه؛ ويجسد لنا الوطن حقيقةً.. تتجاوز كذب الحدود، وجمالاً.. يُؤرّقُ قُبح الأسلاك الشائكة. في حُضنهم؛ تفرّدت الكلمات صياغةً، وتماهت غايةً وخيالا. تفرّقت اللمسات مسافةً، وتوحدت بذلًا وشراكة، بل توهجت نبضًا وحرارة. في عناقهم قوةٌ؛ تربك استبداد الحاكم المتسلط بقراره الرسمي، وتكشف خوفه المُتلفّت في قراره النفسي. في عناقهم رواءٌ، وروافد للانتماء.. للقضية، للإنسانية؛ للقيمة في المُطلق؛ للوعي والفن، للعدل والحق، للكرامة والمقاومة، للجمال والحب.. للمحاولة دون قيدٍ أو حد.
-( يخلط البعض بين ما هو "كلام حلو" وما هو شعر. الكلمات التي يغطيها العسل لا يبقى منها في النهاية إلا الدبق، "الشعر يا عمي مش كلام حلو". .. لكن الشعر الحقيقي هو تعميق المعنى لا غيابه) (9)
سمعت ما قاله بصوته؛ صوت الأبوّة والحكمة واليقظة والإيقاظ. لكن صوتي لم يقوَ بعد على النهوض من مكمن الذهول حيث الأمنية المستحيلة.. واردة؟! لازلتُ صامتة، جامدة.. فكيف عرف إذًا ما يدور بخُلدِي؟! هل يسمع لهْجَ قلبي؟! ثم إني عندما أحاول وصف شعوري بهم، لا أنشد "الكلام الحلو"، بل أصبو لمعناهم، كي أعمّق معناي، وأستعين بنورهم -في قلبي- على التأمل وسط شظايا لا حصر لها من التفاصيل!
(..لايزال معظمنا يشعر بإحساس الراكب أرجوحة في ملهىً عام، لولا أنها في منعطف تاريخي لم يسبق لنا أن مررنا به من قبل، وهو ما يزيد الإحساس بالارتفاع إلى أعلى نشوة وبهجة، ويزيد الإحساس بالارتطام بالأرض جزعًا وإحباطًا، هكذا هي منحنيات الثورة في مصر صعودًا وهبوطًا، لحظات من التأمل وسط شظايا لا حصر لها من التفاصيل، لا يدرك معناها بصورتها عن وعي، كمن كانت لديه قدرة استثنائية على التحليق في آفاق اللاوعي، هكذا هو حال المبدعين، فكيف إذن إذا التقى مبدعان حول هذا، ثم كلل هذا اللقاء، حب عابر للحدود، حب عابر للخوف، حب عابر لليأس)(10)!
أذكر كيف نبضتُ لهذه الكلمات عندما قالها المذيع استهلالاً للحلقة التي اسضافتهما. سبق مقدمته هذه؛ مقطع مصور من حلقة سابقة في نفس البرنامج، حضر فيه الصوت مع الصورة؛ ألقًا ونورا.. يقول:
(يا مصر وانتي لسه في البدايات
بكرة اللي جاي أعظم من اللي فات
يا مصر قومي وبصي في المرايات
كان كل واحد في الميدان جايب معاه مراية
رافعها للسما
أشكال وألوان كلها مرفوعة في العالي
صبحت مراية واحدة بتلالي
وبقت يا مصر الأرض صورة للسما
لعبة بازل متكاثرة الأجزاء
لما البشر يتجمعوا تبان السما عالأرض
ولما البشر يتفرقوا تلقى السما بتنفض
تبقى السما متوزعة جوة الشقق
وتمر ليلة من التوجس والقلق
و ننام ونصحى تاني يوم ترجع سما
لما البشر يتجمعوا مع بعض
يا مصر حقك تملكي بدل السما اتنين
واحدة هدية و واحدة تانية صانعها مصريين
يا مصر لو دققتي هتلاقي البراق
بيجر عربية فواكه في الحواري الضيقة
شوفي الصحابة والحواريين على القهوة بيتناقشوا بحرارة
و السما على مد ايدهم مستشارة طيعة ورقيقة
شوفي المساجد كانت تشاور عالسما
صبحت تشاور عالبشر
و تقول اهمّا يا سما بصي و شوفي
و ابقي قولي لكل صوفي و هو طالعلك
طريق المعرفة اتغير
يوصل م السما للأرض
لا يتوه ولا يحيُر
و شوفي الخلق وسط الموت تقابله وهي بتهزر
فيتلخبط و يتبعتر وسر الدنيا يتفسر
و نعدلها و نوزنها
بقول يا مصر قومي وبصي في المرايات
في سما الولاد هما اللى عاملينها
بيشوفوا بعض في وش بعض
كأني أنا انت وهو أنا واحنا الكل
احنا في مرايا بعض بنصبّح صباح الفل
أفدي بروحي كل واحد في المرايا طل
أفدي الشهيد اللي بيتبسم
الفجر توب على قده متجسم
و الله أعلم مين من الاتنين في صاحبه حل
أفدي اللي سهران على الخيم في الطل
وأفدي اللي واقف يشتغل فى الظل
وأفدي اللي شايل للعناد إشارات
يهدي التاريخ صوب الميدان لو ضل
وأفدي اللي واقف هاري نفسه كلام
وأفدي اللي يتّريق على الحكام
وأفدي اللي رايح جاي ما بيتعبش
وأفدي اللي جنبه حط فرشة ونام
وأفدي طويل البال ما يتعصبش
وأفدي المصاب اللي شوية و طاب
وأفدي المصاب بهوى التراب وما طابش
وأفدي اللي صاب البلطجي وما اتصابش
وأفدي المقام العالي في التحرير
دولة بلا أمرا وشعب أمير ) (11)
انتقلت الكاميرا من الشاشة إلى الاستوديو ، ليبدأ مقدم "آخر كلام" بأوّل الكلام؛ قائلاً: (الشاعر العربي، الفلسطيني المصري، الإنسان؛ تميم البرغوثي، وقد اختص هذا البرنامج بأحدث قصائده قبل أسابيع قليلة. الليلة أتينا لكم بأمه وأبيه.)(10)..
فانتبهت!... يُتبع
****************************************
(6)اقتباس من رواية "فرج" للأديبة رضوى عاشور.
(7) المقصود هو الشاعر تميم البرغوثي؛ ابن الأديبين الراحلين الباقيين رضوى عاشور ومريد البرغوثي.
(8) اقتباس من حوار أُجرِي مع الشاعر مريد البرغوثي في موقع "الجزيرة نت" بعنوان: " دفن أوسلو تأخر كثيرًا".
(9) اقتباس من دراسة في أعمال غسان كنفاني بعنوان: "الطريق إلى الخيمة الأخرى" كتبتها الأديبة رضوى عاشور، وكان هذا السطر في تحليلها لرواية "ما تبقى لكم" للأديب غسان كنفاني.
(10) مقدمة حلقة استضافت المبدعَين رضوى عاشور و مريد البرغوثي في برنامج "آخركلام"، تقديم الإعلامي يسري فودة
(11) مقطع من قصيدة "يا شعب مصر" للشاعر تميم البرغوثي.