صديقي رجل متعلم، وهو مؤمن إيمانا جازما بأن الأطفال لا يكذبون.. ولكني أعلم غير ذلك ومن مشاهد الواقع والطبيعة والخبرة بتربية الأطفال، انهم يكذبون وانه طبع فيهم وديدن يمارسونه باستمرار.
بل أعرف من الأطفال من لديه القدرة ان يوقع بلدين في بعضهما ويولد بينهما معارك وشحناء، وأعرف منهم من يمكنه ان يتسبب في هدم البيوت والخلاف بين العائلات.
ثم يأتي صاحبي بعد كل هذا الواقع المشاهد المجرب ليعلن أمامي إيمانه الصارخ بان الأطفال لا يكذبون.؟!
وليسمح لي صاحبي ان أقول له:
إن إيمانك هذا وهم وسراب، وانك لو صدقت الطفل في كل يا ينقله ويحكيه، فسوف تقاتل كل العالم وتخاصم كل الدنيا من حولك.
أذكر أن والدا من الجماعة الدراويش، قابلني يوما ومعه ولده الصغير، ودار بيننا نقاش فقال لي: أنا أصدق هذا الغلام في كل ما يقوله، لأنه ذو صفحة بيضاء عند الله، فإذا قال لي: إن فلانا -حلو-صدقته، ولو قال لي فلان -وحش- صدقته.
اما انا فاجزم أن تصديق طفل صغير لا فهم ولا خبرة لديه بالناس، في مثل هذا.. وهم وبله وجنون، واننا بهذا التصديق لا نحترم نعمة العقل التي وهبنا الله اياها وركبها في ادمغتنا لنحكم بها في علاقاتنا مع البشر.
انا واحد من الناس كثيرا ما اوقعني بعض الاطفال في حرج، حينما تعرضت لكذبهم، وافترائهم علي، وأحاول تفهيم الأخرين وتبرئة نفسي مما افتراه الطفل او الطفلة علي، فأجد نفسي ضعيفا لا استطيع، لأن مجتمعاتنا البلهاء تقدس مقولة: الأطفال لا يكذبون، وهو من صور الجهل الذي ترتع فيه العقول التي تفتقد العلم والفهم والثقافة.
لانه للأسف لا يوجد كذب اكثر من كذب الاطفال.. ناهيك عن انهم لو صدقوا فإنهم ينقلون الكلام في غير السياق الذي قيل فيه، فيتركون لنفسك العنان ان تفسر ما قيل على اقبح صورة، وتظلم غيرك وتظن فيه ظن السوء، ودليلك وبرهانك في هذا هو ان الطفل لا يكذب.
ووالله إنه لكذاب.
كنت في بعض المناقشات، وعرض علي موقف من المواقف، فقلت: هذا خطأ وتصرف مجنون، ومعنى الكلام ان فلانا لو فعل هذا فهذا من قبيل الخطأ والجنون.
ومن حظي السيء ان سمعني طفل وابلغ اباه بما قلت، وقد حزن الرجل من كلامي، وضاق بي وظن بي الظنون، وحاولت شرح الامر له، لكنه كان يرد علي: بأن الأطفال لا يكذبون.!
يا صديقي لم يكن الكلام على هذا السياق.
ولكنه لا يريد تصديقي، لأنه يؤمن بمعتقد أقوى وهو أن الأطفال لا يكذبون.
وانا هنا أحاول اللجوء للخبراء والأطباء الذين يقرون كذب الأطفال، ويؤكدون وجوده، فقرأت في الانترنت وعلمت أن هناك أسباب تدفع الأطفال نحو الكذب، ومنها:
"الخيال: يكون خيال الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة خصبًا جدًّا، حتى أن كذبه في تلك المرحلة لا يُعد كذبًا، بل يُسميه البعض «كذبًا خياليًّا»؛ نظرًا لأن قدرته على التفريق بين الحقيقة والخيال في هذه المرحلة تكون غير مكتملة، ولحبه للقصص والحكايات واستمتاعه بسردها وتأليفها.
الفضول: قد يتساءل الطفل في نفسه: «ما الذي سيحدث إذا قلت أمرًا لم يحدث؟ أو إذا كذبت بشأن أمرٍ ما؟» فيجرب الطفل الكذب بدافع الفضول للإجابة عن تساؤلاته ومعرفة عواقب تجربته.
صرف تركيز الأبوين عنهم: يميل الأطفال الذين يعانون من التوتر أو الاكتئاب إلى الكذب لإخفاء أعراضهم أو تخفيف وصفها، كيلا يشعروا بقلق أبويهم نحوهم أو تعاطفهم معهم.
السعي وراء تحقيق ذواتهم: يكذب بعض الأطفال بغرض رفع ثقتهم بأنفسهم إذا كانوا يعانون من نقصها؛ فتجدهم يحكون قصصًا عن أنفسهم تُشير لمهارات ومواهب لا يمتلكوها، سعيًا وراء ثناء من حولهم وتقديرهم.
التسرع: قد يُجيب بعض الأطفال عن الأسئلة قبل حتى التفكير فيها، لا سيما أولئك الذين يعاونون من اضطراب قصور الانتباه وضعف الحركة، فمنهم من قد يجيبك إجابة تبدو كذبةً، لكن الطفل صادق ولا يتذكر غير ما قال."
وفي محاولة مني لإدراك أبعاد الموضوع والوقوف على وجوده من عدمه، لجأت إلى الصديقة الدكتورة منى قابل د. منى قابل الأخصايية النفسية البارعة والخبيرة بهذه الميادين، لاستعلم منها دقائق الموضوع فكان جوابها مايلي:
"الأطفال فعلا يكذبون لكنه الكذب الذي نتقبله لأنه لا يؤذي أحدا ويكون مصدره الخيال الخصب للطفل، ولكن مع بلوغهم 5 او 6 سنوات، يبدأ هذا الكذب يتطور و ويدعمه الطفل ويمنطقه بحيث يكون مقبولا عند الكبار ويكون اكثر معقولية.. يحاولون استخدام الكذب للتودد للآخرين، ويرون ان الكذب اكثر قدرة على مجاملة البعض وكسب وده.. ولكن إذا استمر الكذب فهذا يعني ان هناك مشكلة ولابد لها من علاج."
كل هذه وغيرها اسباب تسهم في ابتكار الكذب عند الاطفال كحقيقة علمية نفسية.
واحب القول أن كذب الطفل لا يميز وغير مرتب او مختار، فقد يكذب كذبا عظيما لو أننا اخذنا به ﻻستحللنا دماء الناس وأعراضهم.
رجاء كونوا عقلاء ولا تصدقوا الأطفال، فإنهم يكذبون، خاصة في هذا الزمن الذي افتقدت فيه كثير من الأسر مقومات التربية السليمة، التي تخرج اطفالا أسوياء، ثم بعد ذلك نعلي شعار الأطفال لا يكذبون.
كيف لا يكذبون في هذه المناخات الشوهاء، الا إنهم يساقون إلى سلوك الكذب سوقا، ليتنامى معهم عبر الزمان ومع مرور الوقت ليصير طبعا وخلقا وسلوكا.