الكتابة ليست حرفةً نتعلمها فحسب، بل هي رحلة وجودية نعيشها. إنها استجابة لنداء داخلي عميق، ولنبدأ رحلتنا من هناك، من السؤال الجوهري الذي يجب أن يسبق أي حرف تكتب: لماذا؟
لماذا تريد أن تكتب؟ هل لأنك تحمل في داخلك عالماً من المشاعر يبحث عن منفذ؟ هل لأن لديك صوتاً يصرخ ليُسمع في زمن الصخب؟ أم لأنك، ببساطة، لا تفهم نفسك إلا حين تصبّ حيرتها على الورق؟
إجابتك على هذا السؤال ليست مجرد تمهيد، بل هي البوصلة التي ستوجه كل خطوة في رحلتك. هي التي ستمنحك القوة لتصبر على صعوبة الطريق.
انظر إلى دوستويفسكي: لقد كتب "الإخوة كارامازوف" بعد سلسلة من المآسي والانكسارات الشخصية، وكأنه كان يحفر في أعماق النفس البشرية باحثاً عن معنى للعدل والخطيئة والغفران. لم يكن يكتب ليحكي قصةً فقط، بل كان يكتب ليبقى على قيد الحياة. وكذلك ألبير كامو في "الغريب"، الذي حوّل جريمةً عادية إلى بيان فلسفي عن عبثية الوجود واغتراب الإنسان.
القراءة: البذرة التي تسبق الحصاد
لا يمكنك أن تزرع بلا بذور. والكاتب الذي لا يقرأ هو كالمزارع الذي يحاول الحصاد من أرضٍ جرداء. اقرأ كالمهندس الذي يدرس مخططات البناء.اقرأ بعمقٍ وتنوع:
١.الأدب ليتعلم أذنك موسيقى السرد.
٢.الفلسفة لتوسيع آفاق أسئلتك.
٣.التاريخ لتمنح قصتك أرضاً صلبة وحقيقية.
٤.السير الذاتية لتفهم تعقيدات النفس البشرية وتجاربها.
تطبيق عملي: اقرأ رواية مثل "زقاق المدق" لنجيب محفوظ. لاحظ كيف تحول الحارة المصرية الصغيرة إلى كونٍ كامل، يعكس تناقضات المجتمع وصراعاته. ثم حاول أنت: صف شارعك أو مقهىً تزوره دائماً كما لو كان شخصية رئيسية في رواية.
الفكرة: البذرة التي تصنع غابة
وراء كل رواية عظيمة، هناك سؤال بسيط وجوهري، "بذرة" تتحول إلى شجرة عملاقة. لا تبحث عن قصة معقدة منذ البداية،بل ابحث عن السؤال الذي يثير فضولك:
٠ماذا لو عاد شخصٌ إلى وطنه بعد غياب طويل ليجد أنه أصبح غريباً؟
٠ماذا لو اكتشف رجلٌ عادي فجأة أنه يملك قوة خارقة تهدد استقراره؟
٠ماذا لو توقفت في مدينة بأكملها عند لحظة واحدة؟
تطبيق عملي: الرواية العظيمة "مئة عام من العزلة" لماركيز، نبعت من فكرة مركزية بسيطة: ماذا لو كانت عائلة معزولة عن العالم، تحكمها الأساطير وتكرر أخطاءها جيلاً بعد جيل، مما يقودها إلى الفناء المحتوم؟ اكتب فكرتك في جملة واحدة تبدأ بـ"ماذا لو…". هذه هي بذرة مشروعك القادم.
الشخصيات: قلب الرواية النابض
النص بلا شخصيات حية هو مجرد تقرير. الشخصيات هي التي تنقل القارئ إلى عالمك. لكي تتنفس شخصياتك،امنحها:
٠ماضٍ: تاريخٌ يفسر من هي.
٠هدفاً: شيءٌ تتوق إليه أو تخاف فقده.
٠عقبة: شيءٌ داخلي (خوف، شك) أو خارجي (عدو، مجتمع) يمنعها من تحقيق هدفها.
تطبيق عملي: في "الجريمة والعقاب"، راسكولنيكوف ليس مجرد قاتل. إنه شابٌ فقير، مغرور، غارق في الأفكار الفلسفية المتطرفة، يحاول إثبات أنه "إنسان استثنائي" فوق القانون. صراعه الداخلي بين فكرته وجزء إنسانيته المتبقي هو ما يجعل الرواية خالدة. اختر شخصية من خيالك،واكتب عنها صفحة واحدة تصف فيها طفولتها، أكبر خوف لديها، وأعمق حلم سري.
الحبكة: الهيكل الذي يحمل العالم
الحبكة هي الخريطة التي ترسم رحلة شخصياتك. بدون هيكل قوي، ينهار البناء. لا تخف من التخطيط البسيط:
٠البداية: قدم عالمك وشخصياتك بحادثة أو مشهد يشد انتباه القارئ.
٠الوسط (التصاعد): ارفع مستوى الصراع والتحديات، دفع الشخصيات إلى أقصى حدودها.
٠النهاية: قدم حلاً للصراع (نهاية مغلقة) أو اترك جزءاً منه مفتوحاً للتأمل (نهاية مفتوحة).
تطبيق عملي: في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، تبدأ الرواية بلحظة درامية: خروج سعيد مهران من السجن (بداية)، ثم نراه وهو يحاول الانتقام ممن خانوه في مواجهة تصاعدية مع المجتمع والقدر (وسط)، لينتهي به الأمر منعزلاً ومطارداً (نهاية تراجيدية). ارسم خطاًمستقيماً على ورقة. ضع عند بدايته نقطة واكتب "البداية"، في المنتصف "ذروة الأزمة"، وفي النهاية "الحل". ابدأ برسم قوس درامي بسيط لقصتك.
الزمكان: الإطار الذي يصنع الجو
المكان ليس ديكوراً خلفياً، والزمان ليس تاريخاً جافاً. كلاهما يشكلان روح النص. المكان يمكن أن يكون شاهداًعلى الأحداث، مشاركاً فيها، بل وحتى معبراً عن حالة الشخصيات.
تطبيق عملي: بغداد في روايات فؤاد التكرلي هي كائن حي ينزف ذاكرة ووجعاً. وباريس في "البؤساء" لهوغو هي مدينة التناقضات: بين الثراء والفقر، الثورة والقمع، وهي بطل أساسي في الرواية. صِف غرفتك،أو مقهىً، أو أي مكان مألوف لك بطريقة تجعله يبدو غامضاً، حزيناً، أو مشرقاً، بحيث ينقل للقارئ شعوراً محدداً.
الأسلوب: بصمتك الفريدة
لا تسعَ لتقليد أسلوب غيرك. أجمل ما فيك هو صوتك الخاص. اكتب ببساطة ووضوح.لا تتكلف البلاغة. لا تكتب لإبهار الآخرين، بل اكتب لتقول الحقيقة كما تراها. الصدق هو ما يلمس القلوب، وليس تعقيد الجمل.
تطبيق عملي: أسلوب همنغواي في "العجوز والبحر" مباشر وبسيط، خالٍ من الزخارف، لكنه قوي ومكثف مثل أمواج المحيط نفسه. لأنه يعبر عن تجربة إنسانية عميقة بصدق.
الانضباط: جعل الإلهام عادة
الانتظار حتى يهبط "الإلهام" هو وهم. الإلهام يزور أولئك الذين ينتظرونه جالسين إلى مكاتبهم. اضبط منبهك.حدد وقتاً ثابتاً للكتابة كل يوم، ولو لعشرين دقيقة. الالتزام هو الذي يصنع الفارق بين حلم الكتابة وحقيقتها.
تذكّر: نجيب محفوظ، برغم عظمته، كان إنساناً منظماً. كان يكتب لمدة ساعتين كل صباح بانتظام شديد، لسنوات طوال، حتى بنى أحد أعظم المشاريع الروائية في الأدب العربي.
إعادة الكتابة: حيث تولد الرواية الحقيقية
المسودة الأولى هي مجرد استخراج الحجر من المحجر. النحت الحقيقي يبدأ بعد ذلك. دع مسودتك"تستريح" لبعض الوقت، ثم عد إليها بعين ناقدٍ لا تشاركها العاطفة.
٠احذف كل كلمة لا تخدم النص.
٠أضف المشاهد التي تحتاج إلى التوضيح.
٠أعد صياغة الجمل الثقيلة والمتكلفة.
كما قال ماركيز: "الرواية لا تُكتب، بل يُعاد كتابتها."
البداية ليست سوى البداية
لا تخجل من بداياتك الضعيفة أو نصوصك المرتبكة. كل عظيم كان يوماً مبتدئاً. الفرق بين الكاتب العظيم والهاوي ليس الموهبة الأولى، بل المثابرة.
غسان كنفاني نفسه لم يولد كاملاً. كتب في بدايته نصوصاً تجريبية، لكنه استمر، يتعلم وينقح ويطور، حتى صار أيقونة.
لا تسعَ للكمال في البداية، بل اسعَ للصدق. كل جملة تكتبها، حتى تلك التي ستحذفها لاحقاً، هي خطوة ضرورية على الطريق. ابدأ الآن.








































