في ذلك البيت القديم الذي ورثته عن جدي، كانت هناك غرف لم أجرؤ على دخولها منذ سنوات. البيت، بحد ذاته، كان أشبه بمتحفٍ كبيرٍ للحياة التي كانت. مليئاً بقطع الأثاث العتيقة والصور الباهتة والروائح التي تختلط فيها رائحة الخشب القديم بالغبار وبقايا عطور من زمن مضى.
لكن الغرفة في أقصى الطابق العلوي كانت مختلفة. كانت الباب الوحيد الذي ظل مقفولاً طوال الوقت. لم يكن هناك مفتاح له، بل كان هناك مزلاج خشبي، كما لو أن الشخص الذي أغلقها آخر مرة لم ينوِ أبداً فتحها مرة أخرى. كان الجو في ذلك الطابق بارداً دائماً، حتى في ذروة الصيف، وكان الصمت فيه ثقيلاً لدرجة أنك تستطيع سماع دقات قلبك.قررت أخيراً في أحد أيام العطلة أن أواجه ذلك الجزء من الماضي. حملت معي مفكاً ومصباحاً قوياً وصندوقاً أدوات صغيراً. المزلاج صاح عندما دفعتُه للأعلى، وكان الصوت عالياً ومفاجئاً في ذلك الصمت المطبق. دفعتُ الباب الخشبي الثقيل ففتح بصعوبة، محدثاً صوت خدش على البلاط من شدة الغبار المتراكم.
دخلت. كانت الغرفة صغيرة ومكتظة. غطى الغبار كل شيء بطبقة سميكة رمادية اللون، جعلت من الصعب تمييز ألوان الأثاث تحتها. كان ضوء النهار يدخل من نافذة صغيرة واحدة في أعلى الجدار، مغطاة جزئياً بخيوط عنكبوت سميكة، مما جعل الضوء الذي يخترقها خافتاً ومغبراً. في الهواء، علقت رائحة ثقيلة من العفن والخشب القديم والنسيان.
وفي وسط الجدار المقابل للنافذة، كانت هناك الساعة.
كانت ساعة جدارية كبيرة، مصنوعة من خشب داكن منحوت بزخارف بسيطة. زجاجها الأمامي كان متسخاً للغاية لدرجة أنني بالكاد أستطيع رؤية وجهها من خلفه. العقارب كانت ثابتة تماماً، مشيرة إلى الساعة العاشرة والخمس وأربعين دقيقة. كان هناك صمت غريب حولها، كما لو أنها كانت مركز هذا الصمت الذي يملأ الغرفة بأكملها. لم تكن جميلة أو ثمينة بالمقاييس الحديثة، لكن كان هناك شيء عنها جذب انتباهي. ربما كانت طريقتها الوحيدة في الوقوف هناك، صامتة وثابتة، كأنها تحرس شيئاً ما. قررت أن أنظف الغرفة. كان الأمر استفزازياً. مع كل قطعة قماش أمسح بها الغبار، كنتُ أكشف عن طبقات من التاريخ. وجدت كرسياً هزازاً قديماً، ومكتباً صغيراً عليه بقايا حبر جاف، ورفوفاً مليئة بكتب قديمة أغلفتها متآكلة. لكن نظري كان يعود دائماً إلى الساعة. بعد أن انتهيت من معظم الغرفة، وقفت أمامها. لم أخطط لإصلاحها، لكن فضولي كان أقوى مني. بعناية، فتحت الجزء الأمامي الزجاجي، الذي صاح مفصلاه الصدئتان عندما حركتهما. مسحت وجه الساعة بعناية، كاشفاً عن أرقام رومانية باهتة وعقارب سوداء رفيعة. كان الغبار داخلها كثيفاً أيضاً.
بدأت أفحص آلتها الداخلية. كانت معقدة ومثيرة للإعجاب، بتروس نحاسية ويايات صغيرة. لم أكن خبيراً في إصلاح الساعات، لكني لاحظت أن شيئاً ما لم يكن في مكانه الصحيح. كان هناك ذراع تحكم منفصل عن مكانه، وترس صغير علق بفعل الغبار والصدأ. أخرجت الزيوت الخاصة من صندوق الأدوات، وبعناية فائقة، بدأت أنظف التروس الصغيرة. كانت مهمة شاقة تتطلب الصبر. كل تروسة صغيرة كنت أنظفها كانت تكشف عن بريق النحاس الأصلي تحتها. بعد ساعة من العمل الدقيق، وضعت ذراع التحكم في مكانه الصحيح، ووضعت نقطة زيت على المحاور.
لم أتوقع أن تعمل. لكني أدرت العقارب قليلاً بيدي، وفجأة... سمعت صوتاً.
كان صوت تيك تاك خفيفاً في البداية، ثم أصبح منتظماً. كانت الساعة تعمل. شعرت بغبطة غريبة، كما لو أنني أحييت شيئاً كان ميتاً. نظرت إلى العقارب وهي تبدأ في التحرك ببطء، متجهة نحو الحادية عشرة.
ثم سمعت صوتاً آخر.
لم يكن صوتاً ميكانيكياً هذه المرة. كان صوتاً خافتاً، مثل همسة قديمة عالقة في الزوايا. التفتُ حولي بسرعة، لكن لم يكن هناك أحد. الغرفة كانت لا تزال فارغة إلا مني.
ثم سمعته مرة أخرى. كان يبدو وكأنه صوت امرأة تتنهد.
صعد شعور غريب من عمودي الفقري. هل كان خيالي؟ هل كان عقلي يلعب معي ألعاباً بسبب الجو الغريب للغرفة؟
تراجعت خطوة إلى الوراء، محدقاً في الساعة وهي تستمر في دقاتها المنتظمة. كان صوت التيك تاك الآن يملأ الغرفة، محطماً ذلك الصمت الذي دام لعقود. لكن أسفله، تحت ذلك الصوت الميكانيكي، كنت أعتقد أنني أسمع أصواتاً أخرى... أصواتاً بشرية.قررت أن أفحص الساعة بشكل أعمق. ربما كان هناك شيء ما داخلها يسبب هذه الأوهام السمعية. بإضاءة المصباح، نظرت إلى الجزء الخلفي من آلتها الداخلية.
وهناك، ملتصقاً باللوح الخشبي الخلفي، كان هناك مغلف صغير بني اللون، متآكل الأطراف. كان مخبأً بشكل جيد، ولم أكن لأراه لولا أنني كنت أبحث تحديداً.
يداي ارتعشتا قليلاً وأنا أفتح المغلف. كان بداخله ورقة واحدة، صفراء وهشة للغاية، مكتوبة بخط يد أنيق ومائل. عرفت على الفور أنه خط جدي. كان يعمل كاتباً في بلدية المدينة، وكان خطه جميلاً ومميزاً.
بدأت أقرأ:
"اليوم هو الثاني من نوفمبر، 1965. هذا الصباح، غادرت ليلى. لا أعرف إذا كنت سأراها مرة أخرى. قالت إنها ستسافر إلى المدينة الكبيرة لتبحث عن فرصة عمل أفضل، لكنني أعرف في قلبي أن السبب هو أنا. أنا الذي لم أستطع أن أمنحها ما تستحقه."
توقفت عن القراءة للحظة. ليلى؟ لم أسمع هذا الاسم من قبل في عائلتنا. من تكون؟
واصلت القراءة:
"كانت تعمل هنا في البيت، تساعد والدتي في الأعمال المنزلية بعد أن مرضت. جاءت من القرية المجاورة. كانت دائماً تبتسم، وكان صوتها وهي تغني أثناء العمل يملأ البيت بالدفء. وقعت في حبها منذ اللحظة الأولى، وأنا متأكد أنها أحبتني أيضاً. لكن الحياة لم تكن بهذه البساطة."
"والداي رفضا الفكرة تماماً. قالا إنها ليست من مستوانا الاجتماعي، وأنها جاءت لتعمل وليس شيء آخر. حاولت التحدث معهما، لكنهما كانا حازمين. حتى أنهما هددا بإرسالها بعيداً إذا اكتشفا أن بيننا شيء."
"كنت خائفاً. خائفاً من ضياعها، وخائفاً من والداي. كنت ضعيفاً. والآن، ها هي قد رحلت. أعطاني والدها هذه الساعة القديمة كهدية عندما جاءت للعمل هنا قبل عامين. قال إنها كانت في عائلتهم منذ أجيال. الآن، كلما نظرت إليها، كلما تذكرتها.
لقد أوقفت الساعة عند الوقت الذي غادرت فيه الباب. الساعة العاشرة وخمس وأربعون دقيقة. كان هذا آخر مرة رأيتها فيها. لم أستطع تحمل فكرة أن الوقت سيستمر في المرور بينما هي ليست هنا. أشعر وكأن جزءاً مني قد توقف في هذه اللحظة.
لا أعلم لماذا أكتب هذا. ربما أتمنى أن يجدها أحد يومًا ما. ربما أريد أن يعرف أحد أنني لم أنسها أبداً. أنا آسف، ليلى. آسف لأنني لم أكن شجاعاً كافٍ.
"ابراهيم"
ابراهيم. كان هذا اسم جدي. لم أسمع أبداً أي شخص في العائلة يذكر شيئاً عن امرأة تدعى ليلى. كان دائماً يُصور على أنه الرجل العائلي المثالي، الذي تزوج من جدتي وأنجب أطفالاً وعاش حياة مستقرة.
وقفت هناك، وأنا أمسك بالورقة الهشة في يدي، بينما استمرت الساعة في دقاتها المنتظمة خلفي. شعرت وكأنني فتحت باباً إلى ماضي لم أكن أعرفه. لم تكن الساعة مجرد قطعة أثاث عاطلة، بل كانت نصباً تذكارياً لحب ضائع، لحظة حزن مجمدة في الزمن. سقطت من المغلف صورة صغيرة بالأبيض والأسود. كانت لشابة في مقتبل العمر، ترتدي فستاناً بسيطاً وتقف أمام الباب الخلفي للبيت. كانت تبتسم، لكن عينيها تبدوان حزينتين بعض الشيء. على ظهر الصورة، كان مكتوباً بخط مختلف: "لليلى، دائمًا في قلبي."
لم يكن جدي قد نسيها أبداً. لقد حافظ على سرها طوال هذه السنوات، محفوظاً في قلب هذه الساعة المتوقفة.
لم أستطع إخراج القصة من رأسي. من كانت ليلى هذه؟ ما الذي حدث لها؟ هل عادت إلى قريتها؟ هل تزوجت؟ هل لا تزال على قيد الحياة؟
قررت أن أحاول البحث. بدأت بالقرية المجاورة التي ذكرها جدي في مذكراته. كانت لا تزال موجودة، على بعد حوالي عشرين كيلومتراً من مدينتنا.
في عطلة نهاية الأسبوع التالية، قمت بالرحلة. القرية كانت صغيرة وهادئة. لم يكن من الصعب العثور على كبار السن في المقهى الوحيد في الساحة الرئيسية.
عندما سألت عن عائلة كانت لديها ابنة تدعى ليلى عملت في المدينة قبل عقود، نظر الرجال إلى بعضهم البعض في صمت للحظة. ثم قال أحدهم، وهو رجل عجوز تجلس التجاعيد على وجهه كخريطة حياة طويلة: "آه، ليلى... نعم، أتذكرها. كانت ابنة خالي."
قادني الرجل، الذي قدم نفسه باسم عبدالله، إلى منزله المتواضع. جلسنا في فناء مغطى بنباتات متسلقة، وقدّم لي الشاي.
"ليلى كانت أختي من الرضاعة," قال وهو يتنهد. "كانت فتاة جميلة وذكية. ذهبت للعمل في بيت عائلة غنية في المدينة، على أمل أن تجمع بعض المال لتساعد عائلتها. لكنها عادت بعد عامين... مختلفة."
"ماذا حدث؟" سألت.
"حزينة. كانت دائماً حزينة. لم تتحدث كثيراً عما حدث، لكننا فهمنا أن هناك شاباً في ذلك البيت... وأن الأمر لم ينتهِ حسنًا." قال عبدالله وهو يهز رأسه. "رفضت الزواج من أي شخص بعد ذلك. بقيت تعيش مع أسرتها، تساعد في تربية أبناء إخوتها. كانت تحب الأطفال كثيراً."
"هل... هل لا تزال على قيد الحياة؟" سألت بتردد.
ابتسم الرجل العجوز حزيناً. "لا، يا بني. توفيت قبل عشر سنوات تقريباً. مرض السرطان. لكنها كانت محاطة بعائلتها حتى النهاية."
شعرت بطعنة حزن في قلبي. لم أدرِ لماذا، لكنني كنت أتمنى لو أنني استطعت مقابلتها، إخبارها بأن جدي لم ينساها أبداً.
"هل تركت شيئاً؟ أي مذكرات أو صور؟" سألت.
نهض الرجل ودخل إلى داخل المنزل، ليعود بعد دقائق ومعه صندوق خشبي صغير. فتحه وأخرج منه مجموعة من الرسائل وصورة قديمة.
"هذه كل ما تركته," قال. "كانت تحتفظ بهذه الذكريات."
كانت الصورة لليلى وجدي معاً. كانا واقفين في حديقة البيت الخلفية، يبتسمان بصدق. كانا يبدوان شابين وسعيدين. في الخلفية، يمكنني رؤية جزء من الساعة وهي على الجدار.
الرسائل كانت من جدي إلى ليلى. كان يكتب لها بعد أن غادرت، يخبرها عن حبه لها، عن ندمه على عدم وجود الشجاعة الكافية للوقوف في وجه عائلته. كان يطلب منها أن تنتظره، أنه سيجد حلاً.
لكن أحدث رسالة كانت من ليلى إلى جدي، لم ترسل فيما يبدو أبداً. كانت تكتب:
"عزيزي ابراهيم، أعلم أنك تحبني، وأنا أحبك. لكنني أرى المعاناة في عينيك كلما تحدثنا. لا أريد أن أكون سبباً في انفصالك عن عائلتك. سأعود إلى قريتي. لا تحاول البحث عني. أتمنى لك حياة سعيدة."
كانت قد ضحت بحبها من أجل سعادته.
سألت عبدالله إذا كان بإمكاني أخذ الصورة والرسائل لأسجلها في تاريخ العائلة. وافق بعد تردد، على أن أعيد له نسخاً منها.
عدت إلى البيت، حاملاً معي صندوق الذكريات الصغير. ذهبت مباشرة إلى الغرفة في الطابق العلوي. كانت الساعة لا تزال تعمل، دقاتها المنتظمة تملأ الغرفة.
لم أعد أشعر بأن الأصوات التي أسمعها هي أوهام. كان الأمر كما لو أن الساعة، بعد أن عادت إلى الحياة، أطلقت الذكريات التي كانت محبوسة داخلها طوال تلك السنوات. كنت أسمع همسات حب، تنهدات حزن، وأحياناً ضحكات خافتة.
قررت أن أفعل شيئاً. ذهبت إلى السوق واشتريت لوحاً خشبياً صغيراً جميلاً. حفرت عليه الاسماء ابراهيم وليلى، وتاريخي لقائهما (1963) وتاريخ رحيلها (1965). علقت اللوح الصغير أسفل الساعة مباشرة.
ثم وضعت صورتهما معاً في إطار بسيط، ووضعته على الرف بجانب الساعة. إلى جانبه، وضعت الرسائل في مغلف شفاف للحفاظ عليها.
لم تعد الغرفة تبدو كغرفة منسية. أصبحت مكاناً للذكرى، نصباً تذكارياً لحب حقيقي ضاع بسبب ظروف الحياة والقوانين الاجتماعية التي عفا عليها الزمن.
أخبرت والديّ بالقصة. كانا مندهشين. قالا إنهما لم يسمعا أبداً عن ليلي. لكن جدتي، زوجة جدي، كانت تعرف. وجدت أمي رسالة قديمة من جدتي إلى أختها، تكتب فيها: "أعلم أن إبراهيم يحب آخرى, وأشعر بالذنب أحيانًا. لكن والده أصر على هذا الزواج."
يبدو أن الجميع كانوا سجناء في قصة أكبر منهم.
الآن، كلما دخلت تلك الغرفة، أتوقف لألقي نظرة على الساعة. لم تعد مجرد آلة لقياس الوقت، بل أصبحت رمزاً للوفاء، للحب الذي يبقى حتى بعد رحيل أصحابها.
تعلمت من هذه التجربة أن كل منزل يحمل قصص في الداخل جدرانه. قصص عن حب وخسارة، فرح وحزن. وأن هذه الذكريات هي التي تعطي للأماكن روحها.
الساعة الآن تعمل بدون توقف، كما لو أنها تريد أن تعوض عن كل الوقت الضائع. وأنا أسمع دقاتها في أرجاء البيت، أتذكر أن الوقت ثمين، وأن علينا أن نعيش حياتنا بدون ندم، وأن نحب بشجاعة.
لأن في النهاية، الذكريات هي كل ما يتبقى. والساعات، مثل قلوب البشر، يمكنها أن تتوقف أحياناً، لكنها يمكن أيضاً أن تعود إلى النبض من جديد، حاملة معها قصصًا من الماضي لتخبرنا بها.








































