بعضُ الوجوه لا تغيبُ بالزمن، بل تزدادُ حضورًا كلّما حاولنا نسيانها. كنتُ أظنّ أنّ السنوات كفيلةٌ بمحوها من قلبي، حتى ذلك اليوم حين رأيتُ صورتَها صدفةً، فعاد كلُّ شيءٍ كما كان: الرائحة، الصوت، والابتسامة التي لم تكتمل.
بينما أمسكُ بقطعة القماش لأمسحَ غبار النسيان عن صورتها في عقلي، لم تزدْ إلا بريقًا. كأنّما يدٌ خفيّةٌ تعيدُ تلميعَ إطارها كلّما حاولتُ إبعادها. أتذكّرُ كيف قال لي صديقي ذاتَ مساء: "النسيانُ نعمة"، فابتسمتُ في صمتٍ، لأنني أعرفُ أن بعضَ الذكريات لا تُمسح، بل تتحوّلُ إلى شظايا تظلّ تنزفُ معنى.
في ذلك الربيع البعيد، لم تكنْ مجرّد وجهٍ عابرٍ في زحام الحياة. كانت تفاصيلها تُشبهُ قصيدةً لم أكنْ أعرفُ كيف أقرأها حينها. عيناها خريطتانِ لمدنٍ لم أزرها بعد، وصوتُها يشبهُ همسَ الأمواج في الليل. كانت تحملُ في قلبها أسرارًا لم تُكشف. لم تكنْ تعرفُ كم كانت جميلةً، وهذا كان جزءًا من جمالها.
كنت أراقبها من بعيد، كل حركة منها كانت تتحدث بلغةٍ لم أتعلمها بعد. ضحكتها، رغم هدوئها، كانت كنسيم يمر على أوراق الخريف، يوقظ الأشجار النائمة ويهزّ الغصون بلا عنف. وعندما كانت تنظر إليّ، حتى بعينيها المشتتين، شعرت أن الزمن يبطئ خطواته، وأن الحاضر كله يتوقف ليستمع إلى صوتها العميق.
في كل مرة تمرّ بجانبي، كان قلبي يكتشف شيئًا جديدًا فيها؛ همساتها الخفيفة كانت تحمل حكمة لم أرها في أي كتاب، ونظرتها كانت تعرف قصصاً عن المدينة لا يعرفها أحد. كنت أظن أنني أعرفها، ثم أكتشف أنني لا أعرف شيئًا، وأن هذا الغموض هو ما يجعلني أريد الاقتراب أكثر.
كنتُ يومها شابًّا يبحثُ عن معنى للحياة في كتب الآخرين، دخلت حياتي كنسمة خفيفة، لم أشعر بها في البداية إلا حين أصبحت جزءًا من كل صباح وكل لحظة. كانت تأتي بابتسامة هادئة، تحمل معها كتبها القديمة، تجلس مقابلي على الأريكة دون ضوضاء، وتترك صمتها يتحدث عن كل شيء لم تُرد قوله. كنت أستمع إليها، أقرأها كما تُقرأ القصائد، وأكتشف في كل كلمةٍ جديدة عالمًا لم أكن أعرفه.
حتى جاءتْ لتُعلّمني أن الحياةَ لا تُقرأ، بل تُعاش. كانت تركضُ تحت المطرِ كطفلة، تضحكُ حين تتعثّرُ كلماتها، تطبخُ ببراءةٍ وتُحرقُ الأرزَ أحيانًا، تُصلحُ أيّ شيءٍ مكسورٍ في بيتي، حتى قلبي.
في أحد الأيام، بينما كنّا نرشفُ الشاي على شرفةِ شقّتي الصغيرة، سألتني: "ماذا ستفعلُ حين أرحل؟" فضحكتُ كالمغفّلِ وقلتُ: "أكتبُ عنك". لم أعرفْ يومها أنني سأفعلُ ذلك حقًّا، لكنْ بطريقةٍ لم أتوقّعها.
مرضتْ فجأة. سرطانٌ في الدمّ، كما قال الأطباء. في المستشفى، بينما كانت تُصارعُ الموت، علّمتني كيف أُصارعُ الحياة. كانت تمسكُ بيدي وتقول: "لا تنسى أن تضحكَ حين أذهب". كنتُ أنظرُ إليها وأتعجّبُ من هذه القوةِ التي لا تُفهَم. في ليلتها الأخيرة، طلبتْ مني أن أقرأَ لها شيئًا مما كتبتُ، فقرأتُ لها قصيدةً كانتْ هي موضوعها. ابتسمتْ وقالت: "ستكتبُ عني أكثرَ بعد رحيلي". ثمّ أغمضتْ عينيها إلى الأبد.
بعد جنازتها، حاولتُ أن أعودَ إلى حياتي الطبيعية. لكنّ كلَّ شيءٍ كان يُذكّرني بها. حتى قطرات المطرِ صارتْ تحملُ صوتَ ضحكتها. حاولتُ أن أهربَ منها بالسفر، فزرتُ مدنًا بعيدة، لكنّي وجدتُها في كلّ مكان.كنتُ أمشي في الشوارع، أراقب الناس، وأبحث عن أي انعكاسٍ لضحكتها في عيون المارة، عن أي حركةٍ تشبه إيماءاتها، عن أي صدىٍ لصوتها بين الأصوات. ولكن ما كنت أجده دائمًا هو الفراغ، ذلك الفراغ الذي لم أكن أعرفه من قبل، وكان يثقل قلبي كما لم يثقل من قبل.
عدتُ إلى شقتي، وكل زاوية فيها كانت تتنفس حضورها الغائب. الكرسي الذي اعتادت أن تجلس عليه على الأريكة كان يبدو فارغًا أكثر من أي وقت مضى، والكتب التي تركتها موضوعة بعناية كانت تتحدث إليّ بصوتها الصامت. كل شيء أصبح تذكيرًا بأنها لم تعد هنا، وأن غيابها صار واقعيًا لا مهرب منه.
الأصدقاءُ ظنّوا أنّني تجاوزتُ الفقدَ، لأنني عدتُ إلى عملي، وبدأتُ بالخروجِ معهم مجدّدًا. لكنّهم لم يعرفوا أنّي كنتُ أرتدي قناعَ التعافي كلّ يوم. في العمل، كنتُ أُطفئُ شاشةَ الحاسوب حين تأتيني دمعةٌ طائشة. في السوق، كنتُ أتجنّبُ الممرَّ الذي تبيعُ فيه قهوتَها المفضّلة.
بعد عامين من رحيلها، قابلتُ فتاة. كانت جميلةً وذكيةً وحسّاسة. حاولتُ أن أفتحَ قلبي لها، لكنّي اكتشفتُ أنّ قلبي صار متحفًا لذكرى أخرى. في أوّل لقاءٍ بيننا، سألتني: "من تكونُ هذه التي تسكنُك؟" فاندهشتُ لكيفيّة معرفتها. قالت: "أراها في عينيك حين تظنّ أنّني لا أنظر". حاولتُ أن أشرحَ لها، فاستمعتْ بصبرٍ ثمّ قالت: "بعضُ الأشخاصِ لا يرحلون، بل يصيرون جزءًا منّا". تزوّجتُ بالفتاة بعد ذلك،كانت تعرفُ أنّ في قلبي غرفةً مُقفلةً لا تستطيعُ دخولها.
اليوم، بعد خمسة عشر عامًا، أجلسُ في غرفتي وأكتبُ عنها. ابنتي الصغيرة تدخلُ فجأةً وتسأل: "من هذه التي تكتبُ عنها يا أبي؟" فأجيب: "عن شخصٍ علّمني معنى الحبّ". فتسأل: "وهل ما زلتْ تحبّها؟" فأمسكُها وأضمّها إليّ وأقول: "بعضُ الحبّ لا ينتهي، يا صغيرتي، بل يتحوّلُ إلى نورٍ يضيءُ طريقنا".
الآن أفهمُ ما لم أكنْ أفهمه. لم تكنْ محبتُها مجرّد علاقةٍ بين شخصين، بل كانت مدرسةً تعلّمتُ فيها كيف أكونُ إنسانًا. تعلّمتُ منها أن الحبَّ الحقيقيَّ لا يموتُ بموتِ الأشخاص، بل يظلُّ ينمو في قلوبِ من تبقّوا. وأنّ الفقدَ ليس نهايةً، بل تحوّلٌ إلى حضورٍ آخر.
والآن كلما أردتُ مسحَها من مخيّلتي، لم تزدْ إلا لمعانًا. لأنّها لم تكنْ وجهًا نُسِج من الجمال فقط، بل كانت معنىً من حياتي لا يُمحى إلا بزوال الحياة. هي لم تعد هنا، لكنّها أيضًا لم تذهب. تعيشُ في المسافةِ بين قلبي وظلّي، في الصمتِ الذي يسبقُ الكتابة، وفي الرجفةِ التي تعقبُها.
وكلّما قلتُ: نسيتها
ضحكَ الليلُ، وابتسمَتِ الذاكرة،
وانبعثَ وجهُها من رمادِ القصيدةِ كالفجرِ الذي لا يُقهر.








































