آخر الموثقات

  • لا يستطيعُ قول "آه" واحدة
  • تعالي يا بنتي
  • الإتفاق النووي أراده ترامب قتيلا
  • ذكري لحظة فخر وغضب
  • ملكك أنت
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة حسين العلي
  5. قصة قصيرة: ( رماد الذاكرة )
⭐ 0 / 5

بعضُ الوجوه لا تغيبُ بالزمن، بل تزدادُ حضورًا كلّما حاولنا نسيانها. كنتُ أظنّ أنّ السنوات كفيلةٌ بمحوها من قلبي، حتى ذلك اليوم حين رأيتُ صورتَها صدفةً، فعاد كلُّ شيءٍ كما كان: الرائحة، الصوت، والابتسامة التي لم تكتمل. 

بينما أمسكُ بقطعة القماش لأمسحَ غبار النسيان عن صورتها في عقلي، لم تزدْ إلا بريقًا. كأنّما يدٌ خفيّةٌ تعيدُ تلميعَ إطارها كلّما حاولتُ إبعادها. أتذكّرُ كيف قال لي صديقي ذاتَ مساء: "النسيانُ نعمة"، فابتسمتُ في صمتٍ، لأنني أعرفُ أن بعضَ الذكريات لا تُمسح، بل تتحوّلُ إلى شظايا تظلّ تنزفُ معنى.

 

في ذلك الربيع البعيد، لم تكنْ مجرّد وجهٍ عابرٍ في زحام الحياة. كانت تفاصيلها تُشبهُ قصيدةً لم أكنْ أعرفُ كيف أقرأها حينها. عيناها خريطتانِ لمدنٍ لم أزرها بعد، وصوتُها يشبهُ همسَ الأمواج في الليل. كانت تحملُ في قلبها أسرارًا لم تُكشف. لم تكنْ تعرفُ كم كانت جميلةً، وهذا كان جزءًا من جمالها.

 

كنت أراقبها من بعيد، كل حركة منها كانت تتحدث بلغةٍ لم أتعلمها بعد. ضحكتها، رغم هدوئها، كانت كنسيم يمر على أوراق الخريف، يوقظ الأشجار النائمة ويهزّ الغصون بلا عنف. وعندما كانت تنظر إليّ، حتى بعينيها المشتتين، شعرت أن الزمن يبطئ خطواته، وأن الحاضر كله يتوقف ليستمع إلى صوتها العميق.

 

في كل مرة تمرّ بجانبي، كان قلبي يكتشف شيئًا جديدًا فيها؛ همساتها الخفيفة كانت تحمل حكمة لم أرها في أي كتاب، ونظرتها كانت تعرف قصصاً عن المدينة لا يعرفها أحد. كنت أظن أنني أعرفها، ثم أكتشف أنني لا أعرف شيئًا، وأن هذا الغموض هو ما يجعلني أريد الاقتراب أكثر.

 

كنتُ يومها شابًّا يبحثُ عن معنى للحياة في كتب الآخرين، دخلت حياتي كنسمة خفيفة، لم أشعر بها في البداية إلا حين أصبحت جزءًا من كل صباح وكل لحظة. كانت تأتي بابتسامة هادئة، تحمل معها كتبها القديمة، تجلس مقابلي على الأريكة دون ضوضاء، وتترك صمتها يتحدث عن كل شيء لم تُرد قوله. كنت أستمع إليها، أقرأها كما تُقرأ القصائد، وأكتشف في كل كلمةٍ جديدة عالمًا لم أكن أعرفه.

 

حتى جاءتْ لتُعلّمني أن الحياةَ لا تُقرأ، بل تُعاش. كانت تركضُ تحت المطرِ كطفلة، تضحكُ حين تتعثّرُ كلماتها، تطبخُ ببراءةٍ وتُحرقُ الأرزَ أحيانًا، تُصلحُ أيّ شيءٍ مكسورٍ في بيتي، حتى قلبي.

 

في أحد الأيام، بينما كنّا نرشفُ الشاي على شرفةِ شقّتي الصغيرة، سألتني: "ماذا ستفعلُ حين أرحل؟" فضحكتُ كالمغفّلِ وقلتُ: "أكتبُ عنك". لم أعرفْ يومها أنني سأفعلُ ذلك حقًّا، لكنْ بطريقةٍ لم أتوقّعها.

 

مرضتْ فجأة. سرطانٌ في الدمّ، كما قال الأطباء. في المستشفى، بينما كانت تُصارعُ الموت، علّمتني كيف أُصارعُ الحياة. كانت تمسكُ بيدي وتقول: "لا تنسى أن تضحكَ حين أذهب". كنتُ أنظرُ إليها وأتعجّبُ من هذه القوةِ التي لا تُفهَم. في ليلتها الأخيرة، طلبتْ مني أن أقرأَ لها شيئًا مما كتبتُ، فقرأتُ لها قصيدةً كانتْ هي موضوعها. ابتسمتْ وقالت: "ستكتبُ عني أكثرَ بعد رحيلي". ثمّ أغمضتْ عينيها إلى الأبد.

 

بعد جنازتها، حاولتُ أن أعودَ إلى حياتي الطبيعية. لكنّ كلَّ شيءٍ كان يُذكّرني بها. حتى قطرات المطرِ صارتْ تحملُ صوتَ ضحكتها. حاولتُ أن أهربَ منها بالسفر، فزرتُ مدنًا بعيدة، لكنّي وجدتُها في كلّ مكان.كنتُ أمشي في الشوارع، أراقب الناس، وأبحث عن أي انعكاسٍ لضحكتها في عيون المارة، عن أي حركةٍ تشبه إيماءاتها، عن أي صدىٍ لصوتها بين الأصوات. ولكن ما كنت أجده دائمًا هو الفراغ، ذلك الفراغ الذي لم أكن أعرفه من قبل، وكان يثقل قلبي كما لم يثقل من قبل.

 

عدتُ إلى شقتي، وكل زاوية فيها كانت تتنفس حضورها الغائب. الكرسي الذي اعتادت أن تجلس عليه على الأريكة كان يبدو فارغًا أكثر من أي وقت مضى، والكتب التي تركتها موضوعة بعناية كانت تتحدث إليّ بصوتها الصامت. كل شيء أصبح تذكيرًا بأنها لم تعد هنا، وأن غيابها صار واقعيًا لا مهرب منه.

 

الأصدقاءُ ظنّوا أنّني تجاوزتُ الفقدَ، لأنني عدتُ إلى عملي، وبدأتُ بالخروجِ معهم مجدّدًا. لكنّهم لم يعرفوا أنّي كنتُ أرتدي قناعَ التعافي كلّ يوم. في العمل، كنتُ أُطفئُ شاشةَ الحاسوب حين تأتيني دمعةٌ طائشة. في السوق، كنتُ أتجنّبُ الممرَّ الذي تبيعُ فيه قهوتَها المفضّلة.

 

بعد عامين من رحيلها، قابلتُ فتاة. كانت جميلةً وذكيةً وحسّاسة. حاولتُ أن أفتحَ قلبي لها، لكنّي اكتشفتُ أنّ قلبي صار متحفًا لذكرى أخرى. في أوّل لقاءٍ بيننا، سألتني: "من تكونُ هذه التي تسكنُك؟" فاندهشتُ لكيفيّة معرفتها. قالت: "أراها في عينيك حين تظنّ أنّني لا أنظر". حاولتُ أن أشرحَ لها، فاستمعتْ بصبرٍ ثمّ قالت: "بعضُ الأشخاصِ لا يرحلون، بل يصيرون جزءًا منّا". تزوّجتُ بالفتاة بعد ذلك،كانت تعرفُ أنّ في قلبي غرفةً مُقفلةً لا تستطيعُ دخولها.

 

اليوم، بعد خمسة عشر عامًا، أجلسُ في غرفتي وأكتبُ عنها. ابنتي الصغيرة تدخلُ فجأةً وتسأل: "من هذه التي تكتبُ عنها يا أبي؟" فأجيب: "عن شخصٍ علّمني معنى الحبّ". فتسأل: "وهل ما زلتْ تحبّها؟" فأمسكُها وأضمّها إليّ وأقول: "بعضُ الحبّ لا ينتهي، يا صغيرتي، بل يتحوّلُ إلى نورٍ يضيءُ طريقنا".

 

الآن أفهمُ ما لم أكنْ أفهمه. لم تكنْ محبتُها مجرّد علاقةٍ بين شخصين، بل كانت مدرسةً تعلّمتُ فيها كيف أكونُ إنسانًا. تعلّمتُ منها أن الحبَّ الحقيقيَّ لا يموتُ بموتِ الأشخاص، بل يظلُّ ينمو في قلوبِ من تبقّوا. وأنّ الفقدَ ليس نهايةً، بل تحوّلٌ إلى حضورٍ آخر.

 

والآن كلما أردتُ مسحَها من مخيّلتي، لم تزدْ إلا لمعانًا. لأنّها لم تكنْ وجهًا نُسِج من الجمال فقط، بل كانت معنىً من حياتي لا يُمحى إلا بزوال الحياة. هي لم تعد هنا، لكنّها أيضًا لم تذهب. تعيشُ في المسافةِ بين قلبي وظلّي، في الصمتِ الذي يسبقُ الكتابة، وفي الرجفةِ التي تعقبُها.

 

وكلّما قلتُ: نسيتها 

ضحكَ الليلُ، وابتسمَتِ الذاكرة،

وانبعثَ وجهُها من رمادِ القصيدةِ كالفجرِ الذي لا يُقهر.

أحدث الموثقات تأليفا
مدونة نهلة احمد حسن

الكاتب: نهلة أحمد حسن

رقم التوثيق: 29492

عدد المشاهدات: 6

تاريخ التأليف: 7-11-2025


مدونة سمير حماد

الكاتب: د. سمير عبد الله حماد

رقم التوثيق: 29490

عدد المشاهدات: 4

تاريخ التأليف: 7-11-2025


مدونة منى أحمد

الكاتب: منى أحمد محمد إبراهيم

رقم التوثيق: 29489

عدد المشاهدات: 4

تاريخ التأليف: 7-11-2025


مدونة نجلاء البحيري

الكاتب: نجلاء محمود عبد الرحمن عوض البحيري

رقم التوثيق: 29480

عدد المشاهدات: 21

تاريخ التأليف: 7-11-2025


مدونة مي القاضي

الكاتب: مي ابراهيم محمد القاضي

رقم التوثيق: 29479

عدد المشاهدات: 7

تاريخ التأليف: 7-11-2025


مدونة سحر حسب الله

الكاتب: سحر حسب الله عبد الجبوري

رقم التوثيق: 29476

عدد المشاهدات: 14

تاريخ التأليف: 6-11-2025


مدونة محمد خوجة

الكاتب: محمد بن الحسين بن ادريس خوجه

رقم التوثيق: 29469

عدد المشاهدات: 6

تاريخ التأليف: 6-11-2025


مدونة مي القاضي

الكاتب: مي ابراهيم محمد القاضي

رقم التوثيق: 29468

عدد المشاهدات: 21

تاريخ التأليف: 6-11-2025


مدونة زينب ابو الفضل

الكاتب: د. زينب عبد السلام محمد أبو الفضل

رقم التوثيق: 29467

عدد المشاهدات: 10

تاريخ التأليف: 6-11-2025


مدونة سارة القصبي

الكاتب: سارة ابراهيم عبد القادر القصبي

رقم التوثيق: 29493

عدد المشاهدات: 3

تاريخ التأليف: 6-11-2025

أكثر الموثقات قراءة
إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة غازي جابر
3↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
4↓الكاتبمدونة آمال صالح
5↑2الكاتبمدونة ايمن موسي
6↑7الكاتبمدونة حسين درمشاكي
7↓-2الكاتبمدونة محمد شحاتة
8↓-2الكاتبمدونة خالد العامري
9↑1الكاتبمدونة هند حمدي
10↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑27الكاتبمدونة سلوى محمود212
2↑14الكاتبمدونة أميرة رفعت130
3↑14الكاتبمدونة إيناس عراقي181
4↑11الكاتبمدونة ايمان صلاح72
5↑10الكاتبمدونة نجلاء البحيري25
6↑10الكاتبمدونة عبير مصطفى29
7↑10الكاتبمدونة هاميس جمال164
8↑8الكاتبمدونة خالد الخطيب63
9↑7الكاتبمدونة حسين درمشاكي6
10↑7الكاتبمدونة نهلة احمد حسن102
11↑7الكاتبمدونة امل محمود233
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1118
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب711
4الكاتبمدونة ياسر سلمي680
5الكاتبمدونة اشرف الكرم606
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري514
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني437
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين431
10الكاتبمدونة شادي الربابعة412

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب363428
2الكاتبمدونة نهلة حمودة217995
3الكاتبمدونة ياسر سلمي200236
4الكاتبمدونة زينب حمدي178680
5الكاتبمدونة اشرف الكرم144860
6الكاتبمدونة مني امين120441
7الكاتبمدونة سمير حماد 117298
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي108363
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين108138
10الكاتبمدونة آيه الغمري103328

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة مريم الدالي2025-11-05
2الكاتبمدونة محمد خوجة2025-11-04
3الكاتبمدونة جيهان عوض 2025-11-04
4الكاتبمدونة محمد مصطفى2025-11-04
5الكاتبمدونة حسين العلي2025-11-03
6الكاتبمدونة داليا نور2025-11-03
7الكاتبمدونة اسراء كمال2025-11-03
8الكاتبمدونة علاء سرحان2025-11-02
9الكاتبمدونة عبد الحميد ابراهيم 2025-11-02
10الكاتبمدونة فاطمة حجازي2025-11-02

المتواجدون حالياً

643 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع