بقدرة لا تُدرك، وحكمة تعجز العقول عن إمساك خيوطها، تسير الحياة. وحين يخون الإنسان فطرته، تخونه الأرض التي وثق بها. فالأرض لا تكذب، ولا تغدر، وإنما هي مرآة صادقة تُري كل امرئٍ ما خبأ في صدره.
في قريةٍ نائيةٍ، حيث تتلوى السهول تحت سماء لا تملك من الرحمة إلا وعدًا كاذبًا، كانت الحياة تشبه التفاف الجذور العطشى حول بقعة ماء بعيدة. لم تعد الأرض تنطق إلا بهمسة الغبار، ولم تعد السماء تعرفهم إلا كظلٍ متجهمٍ يمر سريعًا. الجفاف لم يكن مجرد انقطاع المطر، بل كان انقطاع البركة. والبركة لا تنقطع إلا لعلة.
خرجوا يحملون جرارهم الفارغة كقلوبهم. رجال تثنيهم الهموم، ونساء على وجوههن خريطة العذاب، وأطفال لم تعرف عيونهم لون الخضرة. وقفوا في السهل، يرسلون دعاءهم إلى سماء من جديد. كانت أصابعهم المتشققة ترتجف، وأصواتهم تتكسر بين الأرض والغيوم. لم تكن السماء يومئذ إلا صماء، لا تسمع إلا أنين الأرض. فارتفعت الدعوات كدخان رمادي، بلا حرارة ولا رجاء.
تحدث شيخهم بصوتٍ مرتجف: "استغفروا ربكم."
فاستغفروا، وهم يعلمون أن الاستغفار لا يسكن في الألسن بل في القلوب، وأن قلوبهم منذ زمنٍ طُرد منها الصدق.
تساءلوا في سرهم: أيسمعنا الله؟ أيدرك الغيم أن الأرض عطشى؟ أم أن الكذب والنفاق الذي زرعناه في أنفسنا قد سد كل منفذ للرحمة؟
لكن السماء، رغم كل شيء، رقت لحالهم. تجمعت الغيوم، وارتعدت القلوب كما ترتعد الأرض العطشى تحت الرعد. وهطلت أمطار الغفران، فأزاحت الغبار عن الوجوه وغسلت الجرار. غير أنهم لم يعلموا أن الغيم لا يروي القبور، وأن المطر لا يعيد ما مات من حياة.
ظنوا أن السماء صفحت عنهم. لكن الماء كان أسود، كثيفًا كالحبر، له رائحة تشبه الخيانة. تخلّل التراب، فأنبتت الحقول شوكًا.
كانت المفاجأة التي قصمت ظهورهم. فعوضًا عن القمح والسنابل، أنبتت الأرض رمادًا وعشبًا يابسًا. الأخضر الذي حلموا به كان بلون الموت، والسهل الذي انتظروا أن يزهر أخرج شوكًا يسخر من أيديهم. جلسوا في الحقول حائرين، تتقاذفهم الدهشة واليأس.
سأل بعضهم: لم لا تزهر سنابلنا؟ أين ذهب القمح؟ لماذا لا تنبت الأرض لنا كما كانت تفعل من قبل؟
ذهبوا إلى شيخ القرية، يطلبون جوابًا يطفئ نار حيرتهم. لكنه لم يجد سوى الصمت، فقد كان يرى في أعينهم مرآة للنفاق يعرفه جيدًا.
نظر إليهم ثم قال:
"إنما تثمر الأرض بما تزرعون ، وأنتم زرعتم نفاقًا وتركتم الصدق عاريًا في الريح."
ارتجفت القلوب. تذكر بعضهم كيف اعتادوا الكذب لينجوا بأنفسهم، وتذكر آخرون يوم باعوا الضمير في سوق المصالح. رأوا وجوههم القديمة، حين تآمروا على بعضهم وأكلوا حقوق الضعفاء باسم الحكمة والمصلحة. لم يكن المطر وحده ما تأخر، بل البركة التي لا تهطل إلا على أرض طاهرة وقلوب أمينة.
جلسوا في الحقول يقتاتون من شوك أيديهم، ذلك الشوك الذي زرعوه بأنفسهم ولم يشعروا به حتى طغى على قمحهم. بحثوا في الرماد عن سنبلة ضاعت في أول كذبة افتروا بها على لله، يوم ظنوا أن الخداع ينجيهم من قسوة الحياة، وأن الرياء يشفع لهم عند السماء.
وفي وسط اليأس، برز صوت لم يعرف التلون. طفل صغير نظر إليهم بعينيه الصافيتين وقال: "لماذا لا نزرع الحب بدل النفاق؟ لم لا نروي الأرض بدموع الصدق بدل عرق الخوف؟" ثم التقط حفنة من التراب، وضع فيها بذورًا صغيرة، ودفنها قائلاً: "هذه بذور أمل. سأرويها بدمعي، وأحرسها براحة قلبي."
راقبوه من بعيد، وفي أعينهم خجل وأمل جديد. وبعد أيام قليلة، نبتت من تلك البذور زهرة صغيرة، رفعت رأسها رغم الرماد، تعلن أن الحياة تعرف طريقها إلى الصدق حتى لو ضل الجميع السبيل.
في تلك الليلة، تجمعوا حول الزهرة، وأعينهم تبكي للمرة الأولى دموعًا حقيقية. رفعوا أكفهم مجددًا، لكن دعاءهم كان مختلفًا هذه المرة. لم يطلبوا مطرًا ولا رزقًا، بل غفرانًا وصدقًا جديدًا يزرعونه في أرضهم وقلوبهم.
وحين أشرقت الشمس في اليوم التالي، بدا الحقل أكثر خضرة، والهواء أنقى. عادت السنابل تلوّح بالأمل، وعرف الجميع أن الأرض لا تخون، بل تعكس ما يزرعه الناس فيها. ومن يزرع النفاق، لن يحصد سوى الرماد، مهما أغرقت السماء الأرض بالمطر.








































