لم يكن الصباح مختلفًا عن سابقيه، سوى أن في داخلي رغبة غامضة لا أعرف مصدرها؛ رغبة تدفعني إلى ترتيب فوضى مكتبتي ، كأنني أتهيأ لاستقبال شيء لا أعرفه. جلست أمام تلك الكومة من الكتب و الأوراق التي تراكم عليها الغبار، أوراقٌ صارت تشبه شتات قلبي، ودفاتر صفراء تحمل رائحة زمنٍ لم يعد يُشبِه الحاضر في شيء.
بدأت أُقلّبها واحدةً تلو الأخرى، بحذرٍ يشبه حذر من يُعيد فتح جرحٍ اندمل على ظاهره، لكنه ما زال ينزف في العمق. كانت كل ورقة تمسّ شيئًا داخلي، تلامس وترًا خفيًا يُصدر طنينًا خافتًا من الحنين.
لم أكن أنوي فتح الصندوق ذلك الصباح. كنت فقط أبحث عن دفتر قديم لتدوين بعض الملاحظات. لكن ما إن لامست أصابعي غطاءه حتى تسلّل شيء غامض من داخله، كأنَّ رائحة زمنٍ بعيدٍ كانت تنتظرني هناك، في زوايا النسيان.
أجلت النظر للحظات، تردّدت. فكم مرة وعدت نفسي أن أترك ما مضى نائمًا؟ لكنّ الأصابع خانت القلب، ورفعت الغطاء ببطء، كمن يخشى أن يوقظ ميتًا من نومٍ طويل.
في الداخل كانت الأوراق مبعثرة، صفراء الأطراف، مثقلة ببقايا الغبار، تشبه أيامي حين تركتها خلفي بلا ترتيب. بدأت أجمعها واحدة تلو الأخرى، بحذرٍ يشبه الندم. كل ورقة حملت لي شيئًا من ماضٍ لم أعد أراه في المرايا: بعض الكلمات بخطٍّ متردّد، مقاطع من رسائل لم تُرسل، ومسودّات لقصائد كنت أظنها ضاعت مع أصحابها.
ثم وقعتُ على ورقة التصقت بها صورة قديمة. رفعتها، ومسحت الغبار عنها بطرف كُمّي. هناك، بين خيوط الألوان الباهتة، كان وجهها. ذلك الوجه الذي لطالما ظننتُ أنني تخلّصت منه. ابتسمت في الصورة كما كانت تفعل دائمًا، نصف ابتسامة تخفي نصف الحزن، وتترك الباقي للتأمل.
توقّف الزمن لحظة. شعرتُ بأن شيئًا من صدري يُنتزع، وبأن قلبي رغم ما مرّ عليه من تعبٍ وعمر عاد يخفق كما كان. كأنّ كل ما بُني فوق تلك الذكرى انهار في لحظةٍ واحدة، وعاد كل شيء إلى بدايته الأولى: أول لقاء، أول كلمة، وأول فراق.
جلست على الكرسي ، والصورة بين يديّ. نظرت إليها طويلاً، حتى كدتُ أسمع صدى ضحكتها في الغرفة، وأرى ظلّها يعبر من أمام النافذة كما في تلك الأيام البعيدة.
كم مضى من الوقت؟ لا أدري. لكنّ الشمس كانت قد انتصفت في السماء حين أدركت أنّ يدي ما زالت ترتجف. حاولت أن أضع الصورة جانبًا، لكنّها التصقت بكفّي كأنها تخشى الفراق مرة أخرى.
تلك الصورة التُقطت في ربيعٍ منسيّ. كنّا نسير في شارعٍ ضيّقٍ في الحيّ القديم، تفوح منه رائحة الزهور والفلّ معًا. كانت تحمل كتابًا بيدها، وتلوّح بالأخرى كلما مرّ طفل أو بائع متجوّل. كنتُ أراقبها بصمت، كمن يخشى أن يُنطق السحر فيزول. ثم توقفت أمام مصوّرٍ جوّال، وقالت ضاحكة:
"لنأخذ صورة... لعلنا نضحك يومًا على ملامحنا القديمة."
ضحكنا فعلًا، لكن لم نضحك معًا بعد ذلك اليوم. بعد أشهر، افترقنا على رصيفٍ لا يختلف كثيرًا عن الرصيف الذي التقينا عليه. لم يكن في الوداع دموع ولا كلمات كبيرة، فقط نظرة طويلة، صامتة، كأنها اتفاقٌ على أن نترك الماضي يحمل ما لم نقدر على حمله.
أعدت النظر إلى الصورة، ثم إلى الأوراق حولي. وجدت رسالتها القديمة بينها، بخطّها المائل الذي كنت أعرفه كما أعرف نبضي. لم أكمل قراءتها. كنت أحفظها عن ظهر قلب، رغم مرور السنين.
في ذلك المساء ، جلستُ على مكتبي، أُقلب في دفاتري الجديدة. حاولت أن أكتب، أن أعود إلى واقعي، إلى عملي، إلى تلك الحياة التي تعلّمتُ أن أعيشها بلا حنين. لكن كل حرفٍ كان يقودني إلى الماضي.
كنت كمن يكتب رسالة إلى نفسه ولا يجرؤ على إرسالها.
الليل نزل ببطء، والمدينة خلف النافذة خافتة الصوت. رأيت انعكاس صورتي على الزجاج، فابتسمتُ في مرارة. نظرتُ إلى وجهي فرأيت الشيب في أطراف شعري، والخطوط الرفيعة تحت العينين. لم أبدُ غريبًا عني، لكنّي لم أبدُ أنا أيضًا.
لكن رغم كل هذا، كان في قلبي مكان صغير لم يمسه الغبار بعد. مكان يحتفظ برائحة الأيام الأولى، حين كان كل شيء يبدو ممكنًا.
تساءلتُ: أهو الحنين من يعيدنا إلى الصور، أم نحن من نختبئ فيها كي لا نعترف بالفراغ الذي تركته الحياة فينا؟
أغلقت الصندوق بهدوء، كما يُغلق باب جامعٍ بعد صلاةٍ طويلة.
لكنني لم أستطع أن أضع الصورة بداخله. تركتها على الطاولة، تحت ضوء المصباح ، كأنها شاهد صغير على زمنٍ لا يُنسى.
ظلّت الصورة هناك، بين الأوراق الجديدة. كنت أمرّ بها كل صباح، أُعدل مكانها دون قصد، وأواصل يومي كأن شيئًا لم يكن.
لكن في الليل، حين يسكن كل شيء، كانت نظرتها تعود إليّ، تذكّرني أن الماضي لا يختفي، بل ينام تحت رماد الهدوء، ينتظر أن تفتح له النافذة من جديد.
في أحد الأيام، جاءت زميلتي في العمل لزيارتي. رأت الصورة على الطاولة، فسألت ببساطة: زوجتك؟ ابتسمتُ، ولم أجب. ثم قلت بعد لحظة: لا... كانت تشبه الحياة حين كانت أجمل.
ابتسمت هي، ولم تتابع السؤال. لكن كلماتها ظلت تتردّد في ذهني طويلاً.
هل كانت فعلًا تشبه الحياة؟ أم كانت هي الحياة ذاتها، بكل ما فيها من عذوبةٍ وقسوةٍ وغياب؟
في المساء، جلستُ أكتب. لم أكتب عنها هذه المرة، بل عن نفسي. عن الرجل الذي ظلّ يؤجل حزنه حتى تحوّل التأجيل إلى عادة. كتبت عن الخوف من الفقد، عن وهم القوة، وعن تلك الطريقة الغريبة التي نحاول بها إخفاء هشاشتنا خلف الكلمات.
كلما كتبتُ سطرًا، شعرت أن شيئًا في داخلي يتحرّر. كأنني أخيرًا أترك الصورة تتكلم بصوتي، أو أتركني أتكلم بصوتها.
حين انتهيت من الكتابة، عدت إلى الصندوق. فتحته من جديد، وضعت الصورة بين الأوراق، وأعدت الغطاء بإحكام. هذه المرة لم أشعر بالحزن، بل بالسكينة. أدركتُ أن إغلاق الصندوق لا يعني النهاية، بل هو طريقة جديدة للحفاظ على ما تبقّى دون أن يؤلم.
وقفت أمام النافذة، والليل يهبط ببطء كستارةٍ ثقيلة. نظرت إلى المدينة، إلى الأضواء البعيدة، وقلت في نفسي:
"ليس الماضي ما يؤذينا، بل محاولتنا المستمرة لإعادته كما كان."
منذ ذلك اليوم، لم أفتح الصندوق مجددًا. لكنه لم يفارقني. أحيانًا، حين أسمع أغنية قديمة، أو أرى ملامح تشبهها في وجهٍ عابر، أشعر بأن الغطاء يتحرك من تلقاء نفسه، وبأن الصورة تبتسم في العتمة.
عندها فقط، أعرف أن الذكرى لم تمت... بل اختارت أن تعيش في هدوءٍ، كما تعيش النار تحت الرماد، تنتظر نسمةً صغيرة لتعود للحياة.








































