لم أكن أعرف متى بالضبط بدأ داخلي يتآكل، لكنني أذكر أن الأمر لم يحدث دفعةً واحدة. الأشياء لا تنهار بصوتٍ واضح؛ إنها تتداعى بصمت، قطعةً بعد قطعة، حتى لا يبقى في الروح سوى ثقوب صغيرة تنفذ منها البرد.
لم يكن لديّ الكثير لأتعلق به، إلا عادة قديمة: أن أبحث عن بصيص من ضوءٍ في آخر النهار.
كنتُ أخرج وأمشي حتى تلتقي السماء بآخر الأبنية. هناك، كنت أجلس لأراقب الغروب، كمن يحاول الاقترب من شيء ينسحب منه كل يوم. ولم أكن وحدي دائمًا. في زمنٍ مضى، كنتُ أمشي مع شخصٍ كان يمنحني شعورًا بأن العالم ليس كلّه ضدّي. لم نكن نتحدث كثيرًا، لكن الخطوات كانت تتناغم بطريقة تُشعرني بأننا نقاوم معًا. كنت أظن أننا نحمل بعضنا، أو على الأقل نحمل الوقت بيننا دون أن يسقط.
ثم حدث ما يحدث دائمًا: المسافات التي تتركها الحياة بين الناس اتسعت، والطرق التي كنا نشاركها صارت تمتد بيني وبين الغياب. لم يكن رحيلها مفاجئًا، بل كان مثل انطفاء الشمعة: لهبٌ يتراقص، ثم ينحني، ثم يختفي… ولا يعود أحد يعرف ماذا يفعل بالظلام الذي يليه.
لم يكُن الأمل كثيرًا، لكنّه كان كافيًا لأقطع المسافة التي تفصل بين قلبي وقلبي، فليس بين القلبين عادةً إلا سوء فهم، أو سوء توقيت، أو سوء اختيار.
كنتُ أستندُ إلى نافذة القطار، أراقب انكماش المدن تحت عجلاته، وأحاول أن أُقنع نفسي بأنني ذاهب لأستعيد شيئًا لم أعد متأكدًا من وجوده. لم أكن متيقنًا أنّ الحبَّ ما زال هناك، في نهاية الرحلة، ينتظرني كما كنت أريد أن يفعَل. لكنّني كنتُ أدرك أنني إن لم أذهب، سأظلّ أجرجر هذا الألم خلفي العمرَ كلّه، كرجلٍ يجرُّ ظلّه في مدنٍ لا تعرفه.
كان القطار يمضي بسرعةٍ أشعرتني بأن العالم يهرب من تحت قدمي، وأنني أركض خلف شيءٍ لا يريد التوقف.
ولأنني لم أكن أعرف كيف أتراجع، ظللت أتقدم. مرّت بي الحقول كصفحات كتابٍ قديم، كنت أقرأ فيه ذاتي أكثر مما أقرأ تفاصيل الطبيعة. كنتُ أحدّث نفسي بأن اللقاء هذه المرّة سيكون مختلفًا… أن صمتها الذي كان يجرحني سيتحوّل إلى حديث، وأن المسافة التي كان تتركها بيننا ستضيق حتى تلتصق روحي بكتفها كما كانت تفعل في البدايات.
لكنّ شيئًا في صدري كان يرفض أن يصدّق.
كان داخلي يتمرّد عليّ، يذكّرني بأن الذين يعتادون الرحيل، لا يعودون أحدًا مهما حاول أحدهم أن يفتح لهم الأبواب. ورغم ذلك، ظللتُ أمضي. أحيانًا، نفضّل الوهم على الحقيقة لأن الحقيقة قادرة على أن تصيبنا بانهيارٍ لا نملك ترف النجاة منه.
عندما وصلت، كان الغروب يجرُّ آخر خيوطه على الطريق المؤدية إلى البيت الذي حفظت جدرانه أنفاسي لسنوات.
مشيتُ نحوه ببطء، كما لو كنتُ أتقدم نحو قدرٍ لم أعد أميّز إن كنتُ أريده أو أهرب منه. البيت نفسه، النافذة نفسها، الباب الذي كان يفتح لي ذات زمنٍ دون أن أطرق.
السكينة التي كانت تبعث فيَّ طمأنينةً ما، تحوّلت الآن إلى ما يشبه الخوف الصامت.
طرقتُ الباب.
ولم يفتح أحد.
لم يكن الغياب مفاجئًا… كان متوقعًا إلى حدّ يجعلني أبتسم بمرارة.
جلستُ على العتبة، وضعت رأسي بين كفّي، ورحت أسرح في تلك التفاصيل الصغيرة التي لا نلتفت إليها إلا حين نفقد أصحابها: ضحكةٌ كانت تتناثر على السلالم، فنجانُ قهوةٍ كان يُعدّ لي دون طلب، كلمةُ “كيف أنت؟” التي كانت تملك القدرة على إسكات ضجيج أسبوعٍ كامل.
لكنّ كل ذلك تلاشى.
كأن شيئًا لم يكُن.
كأنني لم أكن.
نهضتُ أتمشى في الأزقّة التي كنّا نسير فيها معًا مرارًا.
اشتقتُ إلى خطواتي وأنا برفقتها أكثر مما اشتقت إليها.
فالأشخاص يرحلون، لكنّ النسخ التي يصنعونها منّا تبقى معلّقة في الهواء، تتبعنا مثل ظلٍّ لا يعرف صاحبه.
كنتُ دائمًا أقول إن الحبَّ هو أن تسير وفي قلبك من تحبّ، لا إلى جوارك.
لكنني لم أكن أعني أن يسير وحده، وأظل أنا أتبع ظله فقط.
في كل زاوية من زاوية الطريق، تذكّرتُ كيف كنّا نضحك من أشياء لم تعد تُضحكني الآن. كيف كان تلمس كتفي خلسةً، كأنما تخشى أن يفضحها الحنان.
كيف كانت تنسحب فجأة، كأن اقترابي منها كان يربكها.
تساءلت:
هل كنتُ احبها… أم أحبّ صورتي وأنا احبها؟
سؤالٌ لم أجرؤ على الإجابة عنه.
عدتُ إلى العتبة.
الليل حلّ.
البرد بدأ ينهش أطراف أصابعي.
لا أثر لتحركٍ خلف الباب.
فكرتُ بالتراجع، لكنني لم أستطع.
كان داخلي يريد نهاية… أيّ نهاية.
فالقصص التي تبقى معلّقة تقتل صاحبها أكثر مما يقتله الفقد الصريح.
أغمضتُ عيني، وتمنّيت أن أسمع خطواتها قادمة نحوي.
لكنّ أمنيتي سقطت كما تسقط أمنيات الذين ينتظرون من لا يعلم بانتظارهم.
بعد ساعة، خرجت امرأة مسنّة من أحد البيوت القريبة.
رمقتني بنظرة تفحّص، ثم قالت بصوتٍ خافت:
"ما زلت تنتظر هنا؟ لقد غادروا منذ شهور."
لم أفاجأ.
لم أشعر بالصدمة.
كل ما شعرت به هو فراغٌ كبير… كأن شيئًا ما انكسر في داخلي دون صوت.
شكرْتُها ومضيت.
مشيتُ دون أن أحدد وجهتي.
لا شيء يصعب على من اعتاد الضياع.
وصلتُ إلى المحطة من جديد، لأكتشف أن القطار الأخير غادر منذ دقائق.
جلستُ على المقعد المهترئ، وشعرتُ بأن العالم أصبح أضيق من أن يتسع لخيباتي، وأوسع من أن أصل إلى نهايته.
قرب منتصف الليل، انطفأت الأنوار في المحطة إلا واحدة كانت تومض كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.
فكرتُ بأن الأشياء تشبهنا كثيرًا:
تشيخ، تتعب، تومض قليلًا قبل أن تنطفئ، ولا أحد ينتبه لرحيلها.
رفعتُ رأسي إلى السماء، فلم أجد نجمة واحدة.حتى الضوء تخلّى عني.
حينها فهمتُ شيئًا لم أفهمه من قبل:
أنا لم آتِ لأستعيد أحدًا…
بل جئتُ لأستعيد نفسي بعد أن أضعتها في يدٍ لم تُحسن الإمساك بها.
الحبّ ليس أن نركض خلف مَن يبتعد، بل أن نبتعد عن كل ما يجعل أرواحنا تركض خلف سراب.
أدركتُ أنني حملتُ قلبي أكثر مما يحتمل.
لقد أرهقته بالأمل، أثقلته بالانتظار، ودفعتُه نحو أبوابٍ لا تُفتح.
في تلك اللحظة، شعرتُ بأنني أحتاج أن أترك كل شيء خلفي لا رغبةً في الهرب، بل رغبةً في النجاة.
حين عاد الصباح، كان الصقيع يغطي المقعد والجدران وملابسي.
نهضتُ بصعوبة.
وضعتُ يدي على صدري، كأنني أتأكد أن قلبي ما زال هناك، ينبض رغم كل شيء.
نسمةٌ باردة مرّت على وجهي، فأحسستُ وكأن العالم يمنحني فرصةً صغيرة لأبدأ من جديد… لا لأحبّ أحدًا، بل لأحبّ نفسي التي أهملتها طويلاً.
سرتُ في الطريق الترابي المؤدي إلى المدينة.
لم ألتفت خلفي.
لم يعد هناك ما يستحق الالتفات.
كل ما كان يجب أن أنهيه… انتهى.
أدركتُ أنّ العلاقات لا تموت فجأة، بل تموت مثل الضوء في آخر الليل:
تخفتُ تدريجيًا، حتى يبدو انطفاؤها أمرًا طبيعيًا.
وأنّ العتب الذي كنت أحمله كان استنزافًا لا جدوى منه.
وأنّ من يغادر دون سببٍ حقيقي، لم يكن يومًا سببًا للبقاء.
فهمتُ أنّ الاستمرار في طرق الأبواب المغلقة يشبه محاولة إيقاظ مَن اختار النوم.
وأنّ الذين يحبّون حقًا… لا يغيبون، ولا يجعلون غيرهم يخمّن مكانهم.
أما أنا، فقد تعلّمتُ أخيرًا أن أعود إلى نفسي. أن أحملها برفق، كمن يحمل طفلاً خائفًا. أن أتعامل معها كما كنتُ أتمنى أن يتعامل معي الآخرون.
والأجمل من ذلك كله:
أنني لأول مرة، شعرتُ أن الطريق ولو كان طويلاً أصبح لي وحدي، لا يعبره ثقل الخيبة، ولا يرافقه ظلٌّ لا يعود.
ربما لن أحبّ بهذه الطريقة مرة أخرى…
لكنني أعلم الآن كيف أحبّ نفسي حين يخذلني الآخرون.
وهذا وحده… كان كافيًا لأبدأ.
الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، أشعر أنني لا أكتب حكايتي وحدي.
أكتب حكاية كل من ظنّ أن أحدًا سيكون له ملاذًا، ثم اكتشف أن الملاذ الوحيد هو ما يبنيه داخله.
أكتب عن الذين انتظروا، والذين خُذلوا، والذين مشوا رغم التعب، والذين لم يجدوا يدًا تُمسك بهم، فتعلموا أخيرًا كيف يمسكون أنفسهم.
أنا لست أفضل مما كنت.
لكنني أكثر صدقًا.
أكثر وعيًا بثقوب روحي.
أكثر قدرة على التعامل مع هذا الخراب الداخلي كما أتعامل مع الأمطار: تهطل، تؤلم، لكنها تترك الهواء أنقى بعدها.
لا أعرف إن كنت سأحبّ يومًا، أو إن كان قلبي سيُفتح مرة أخرى.
لكنني أعرف شيئًا آخر:
لن أسمح لغيابٍ جديد أن يسرق صوتي، أو أن يجعلني أنكمش حول فراغٍ لا يشبهني.
لقد فهمت أخيرًا أن الحبّ ليس نجاة، والخيبة ليست موتًا، والوحدة ليست عدوًا.
كلها حالات… مؤقتة، مثل الفصول.
"وما بين فصلٍ وفصلٍ، ثمّة إنسانٌ يتغيّر، يتقوّى، يتلقّى كدماتٍ، لكنه يستمرّ."
وأنا…
سأستمر، لا لأصل إلى أحد، بل لأصل إلى نفسي التي ظننتُ طويلًا أنها تحتاج سندًا خارجيًا كي تبقى واقفة.




































