كانوا يمرّون بجواري فلا يرونني، يلمسونني فلا أشعر، يتحدثون إليّ كأنني حاضر، بينما كنت غارقًا في غيابٍ لا يشبه الغياب. قالوا: متْ سريريًا… وأنا كنتُ أقاوم الموت بأن أراكِ في مخيّلتي. كنتِ أنتِ وحدكِ العلاج، وكنتِ وحدكِ السبب في انتصاري على الفناء.
صوتك… كان الحياة التي ظنوا أنها غادرتني، كان نسمةً على صدرٍ اختنق، وكان دفء الأنوثة التي تعرف كيف تُعيد للرجُل ما سُلِب منه دون أن يدري.
القلب لا ينبض إلا بكِ، والدم لا يسري إلا إذا حمل شيئًا منكِ في مجراه. أنتِ نَبضي حين يتيه الزمن، وأنتِ نبضُ الحياة حين يصير الموت عادة.
في زمانٍ سقطت فيه المعاني، وخذلتنا المدن، وخانتنا الطرق، كنتِ أنتِ المدينة الوحيدة التي لا تُغلق بواباتها، ولا تُطفئ أنوارها في وجهي.
قالوا: من هذه التي بعثتك من موتك؟ قلت: هي الحياة، هي حبيبتي بطعم البلاد، هي التي تحمل الوطن في صوتها، وتزرع الفرح في وجعي، وتعطي للكون نكهة الياسمين والوداد.
معها، الشغف لا ينام، والشوق لا يذبل، والصبر لا ينكسر… معها، يصبح العناق صلاة، والابتسامة عافية، والصمت لغة لا تحتاج إلى ترجمان.
كنا نلتقي في الظلال، نحكي عن الشمس التي ستشرق بنا ذات يوم، نبني وطنًا من الحروف، ونسكنه حلمًا مؤجلًا… نؤمن أن الحياة لا تُقاس بطولها، بل بعمق من نحب.
لم يكن حضورها في حياتي صدفة، بل ضرورة كالأكسجين، حاجة كالماء، وقدر لا يمكن الفرار منه.
أحببتُ فيها كل ما لا يُقال، أحببتُ صمتها حين تُرهقها الكلمات، أحببتُ ملامحها حين تكون حزينة، أحببتُ ألمها لأنها تشاركني إيّاه دون تكلّف.
هي ليست امرأة فقط، هي المدينة والضوء والأمان… هي ذاكرة الندى، وعبق النخيل، وموسيقى الأيام الجميلة.
وإن سألتَ عني، فاعلم: أنا لا أُحيا إلا في وجودها، ولا أُكتب إلا في ظلّها، ولا أرتّب حروفي إلا عندما تبتسم لي من بعيد.
نحن نلتقي لنرتقي، نتسلّق سُلَّم الحياة لا نحو القمة، بل نحو الاكتمال… نحو التعايش، نحو الإنسان… نحو المحبة.