تخيلت نفسي ....
إنني أتحدث عن أناس معينين إصطدمت بهم في حياتي ، بعضهم لم أحتك بهم ولكنني راقبت حياتهم عند بعد ، وبعضهم شاهدتهم عن بعد ولكنهم أثروا في كثيرا .
وضعت نفسي مكانهم وتصورت حياتهم وتألمت لألمهم وفرحت لفرحهم ، وشعرت نتيجة لذلك كم هم أناس مجهولون في الحياة ....
ولذلك ومن هنا جاءت فكرة هذا الموضوع (تخيلت نفسي) .... ففي كل مرة سأتخيل نفسي شخصية من تلك الشخصيات .....
سأتقمص في كل مرة شخصية وأتحدث بلسانها وأعيش يوما من يومياتها .
أولا ... لكي ألقي الضوء عليهم تكريما وتقديرا لهم ..
ثانيا ... لكي أساهم مساهمة بسيطة في إحياء بعض حقوقهم ..
ومن يرغب من إخوتي وأخواتي أعضاء المملكة في تقمص أي شخصية تكون قريبة منه وأثرت ... فأهلا ومرحبا ....
لن أطيل عليكم وسأبدأ بأول شخصية لن تخطر لكم على بال
وتخيلت نفسي ....
وقد وصلت إلى محل خدمتي وقلت في نفسي : ها أنا ذا سأدخل إلى أربع ساعات عذاب ، لو كنت سأموت أو أكاد أن أسقط مغشيا علي فلا يجب علي أن ألتفت أو أستريح ، وما الداعي لذلك أو ما هي الفائدة لا أعلم .... وليت هناك من يرانا أنا وزميلي أو حتى يعيرنا إهتمام ونحن نقف هكذا على الطريق السريع كالأبله .... على العموم إنها فترة وستنقضي
ووجدتني أقول في نفسي لعل لهذه الوقفة فائدة وأنا لاأعلمها .. ربما !!! من يدري؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!
عندما كنت ذات يوما مرافقا لإحدى أفراد عائلتي في المستشفى
ولأنني من النوع الشديد الوسوسة من ناحية النظافة ، فقد ناديت عاملة النظافة لكي تعيد تنظيف الحجرة وبخاصة دورة المياة أمام عيني حتى أتأكد من نظافتهما وخاصة أننا في مستشفى وإحتمال إنتقال العدوى وارد ...
وعندما جائتني كانت بالطبع متبرمة جدا

وظلت على هذا الحال من التبرم والإمتعاض وهي تقول من بين أسنانها

وفجأة إختفت نظرة الإمتعاض وعادت شفتها السفلى المقلوبة إلى وضعها الطبيعي وهي تبتسم إبتسامة لزجة:D : بعد الشر عنك من الوسواس يا عسل ، أنا تحت أمرك ، وأي خدمة للناس العسل .... هكذا إنقلبت بقدرة قادر من حلة بصارة حامضة لعسل بسبب خمسة أوعشرة جنية أو يمكن أقل ....حسب ما يجود الزبون
ونظرت إليها أتابعها وهي تنجز عملها بهمة ونشاط وضمير أكثر من الأول وبداخلي سخط وغضب وإشمئزاز من نفسي لأنني أرشيها لتؤدي عملها الذي هو واجب عليها ... ومنها لأنها إنسانة مادية لاتتقن عملها الذي تستحل لنفسها الأجر عليه
الأجر ...!!!

الأجر ....!!!:confused:
الأجر .......!!!!!!!!!!!



وعندما وصلت لهذا الحد من التفكير
تخيلت نفسي ......
تخيلت نفسي عاملة نظافة ، أقوم بتنظيف دورات الحجرات وتفريغ القمامة ودورات المياه بكل قذارتها ورائحتها الكريهة ، وربما كنت عرضة للعدوى لأي مرض ، ويأتي من يفتش علي وربما أعطاني لفت نظر أو أي خصومات لتقصيري في أي شئ ولو تافه لمجرد فرض سلطاته علي

وبعد إتمام عملي (وفي حصة الغدا) كما يسمونها أذهب للمطبخ أنا وزملائي ونأخذ نصيبنا من الغذاء _الذي طعمه وشكله ما أنزل الله به من سلطان


وفي نهاية الشهر أتقاضى 100جنيه يصل بالجهود والحوافز إلى 120 جنيه لأساعد زوجي به في مصاريف البيت وهو لا يكفي لعيش حاف .... وياسلام لو فيه خصومات
فكيف بالله عليكم أتقن عملي أو أحبه أو أخلص فيه وأنا لا ألقى المقابل ؟؟
أنظف مخلفات الناس ولا ألقى المقابل في الوقت الذي يوجد فيه من يجلس في التكييف على المقاعد الوثيرة ويأخذ راتب أصلي 50000 جنيه وجهود وحوافز 60000 ليصل المجموع ل111000 جنيه في الشهر (هذه أرقام حقيقية بالفعل)
.......
.......
........
وعندما عدت من شرودي وتخيلي لنفسي أحسست أن الرشوة التي سأعطيها لها أقل من حقها بكثير المفروض على الدولة
وقبل أن نطلب من العامل أن يعمل بضمير ، فلنعطيه حقه أولا
كنت أسير في الشارع الخلفي لشارع صديقة لي تسكن في حي العباسية
وبينما كنت أسير وجدت إشغال للطريق وعمال بعضهم فوق الأرض وبعضهم في باطن الأرض عبر تلك البالوعة اللعينة برائحتها الكريهة
وسرت على جانب الطريق في الجزء المتاح منه وأنا أزفر في ضيق من ضيق الطريق وطريقة سيري المتحفزة التي إضطررت إليها
سرت وكلما إقتربت من المكان الذي يتم فيه العمل ، كلما إزدادت الرائحة الكريهة النفاذة ، ووجدت نفسي أخرج منديلي وأضع عليه بعض العطر وأسد بها أنفي .
وعندما كنت بجانب البالوعة وكدت أتخطاها جاءت مني إلتفاتة إلى الرجل وهو يخرج من البالوعة ليأخذ أداة معينة ويعاود النزول إلى البالوعة لإتمام عمله وزميله يقول له : ( خلص يا عم محمود علشان نفطر وبعدين نكمل )
ووقتها تعجبت وقلت : أنا لا أكاد أحتمل الرائحة ، في حين أنه هو منغمس حتى رأسه فيها ، بل ويأكل وسط كل هذا
وهنا .......
تخيلت نفسي .......
وأنا ألبس ما يسمونها بالعفريته وألف وسطي بحبل وأتدلى عبر سلم أو من غير إلى داخل تلك البالوعة المظلمة ذات الرائحة الكريهة ، وتخيلتني وأنا أجلس أتناول طعامي وسط كل هذه القاذورات ، وأظل منهمكا في عملي طوال اليوم , وكأنه قدر قد كتب علي ، في حين هناك من يجلسون على المكاتب الفخمة وسط الجو المعطر والهواء المكيف والمقاعد الوثيرة
وفي نهاية الشهر أتقاضى ما لا يملأ جوفي أو جوف أولادي بمجرد العيش الحاف
في حين أن غيري من أصحاب الحجرات النظيفة والمقاعد الوثيرة يتقاضى الألوف ، هذا غير الجهود والحوافز التي تصل به إلى أرقام فلكية (عادي ... ربنا يدي عبيده ، أنا مش بأحسد ، بس كل اللي نفسي فيه شوية عدل ، هو كتير؟!!)
وفكرت في نفسي هو البيه دا بياخذ مرتبه منين ؟ أكيد من البلد ومن الشعب اللي أنا منهم ، يبقى ليه ما يكونش الفلوس على أد المجهود
ليه أنا اللي عايش وسط المجاري آخذ ملاليم ، وأحيانا لو عدى عليا مراقب ولقاني قاعد أرتاح شويه ولا بأشربلي كباية شاي يخصملي منها
والبيه ياخد شئ وشويات ولو حصل منه تقصير يؤدي لكوارث يتقال له : معلش
أنا لا أعترض ولا أحقد معاذالله وأعلم أن الله مقسم الأرزاق
كل اللي بقول عليه شوية عدل من الناس ... الناس اللي لو عدوا علينا بيسدوا أنوفهم من الريحه
وهنا ........
وبذلت محاولات مضنية في أخذ تاكسي ليوصلني إلى حي مصر الجديدة
ولكن للأسف لم أوفق ففكرت بالذهاب إلى موقف السرفيس لأخذ الميني باص وبالفعل
ركبت الميني باص وكان لم يتحرك بعد وصعد إلى الميني باص طفل صغير في حوالي السادسة من عمره يبيع المناديل الورقية وللحق قلبي رق لحاله جدا وإبتعت منه المناديل بالرغم من أنني لم أكن بحاجة إليها
وأثناء وقوفه بجانبي منتظرا لأعطيه النقود ، صعد الميني باص طفل آخر يكبره بعامين أو ثلاثة وقال له :
(بقولك إيه يا واد يا محمود شوفلك حته تبات فيها اليلادي غير الخرابة علشان البرنس ناوي يشرحك بالمطوه النهاردة ، علشان طلعت تسرح بالمناديل من غير ما تديله المعلوم بتاع إمبارح)
إرتعد محمود رعدة مزقت نياط قلبي وهو يقول : والله أنا إمبارح بعت المناديل والفلوس سرقوها مني شوية صيع من منطقة تانيه وضربوني حتى مالقتش فلوس آكل ولسه هاكل بالفلوس اللي أخدتها من الست دلوقتي وإنت عارف كده .
رد الطفل الآخر وقال : أنا عارف .. بس إنت عارف إن البرنس مالوش دعوة باللي حصلك .
محمود وهو يكاد يبكي : طيب وأنا أعمل إيه دلوقت وأروح فين ؟
الطفل : أنا نبهتك وإنت حر .
شعرت بأسى شديد لحال الولد وفكرت أن آخذه ليبيت مع البواب ولكنها مسئولية لا أعرف عواقبها ، ففكرت في أن أعطيه النقود اللازمة ليعطيها لهذا البرنس لكي يدعه وشأنه وقلت في نفسي لعلها تمثيلية للنصب علي
وربما تكون حقيقة وليست تمثيلية ، وللحق كنت أميل للرأي الآخر فنتيجة نصبه علي لن تكون بفداحة ما سيتعرض له إن كان كلامه حقيقة
وهنا عزمت على أن أعطيه النقود وتوكلي على الله وخاصة أنه ليس مبلغ خيالي ، على الأقل هو أولى من سائق التاكسي الذي كان سيجعلني أدفع له الأجرة مضاعفة وكنت سأدفعها وأنا أحمد الله أنه تعطف وتكرم ووقفلي
وأخرجت النقود لأعطيها له فكانت المفاجأة
لقد رفض بشدة أن يأخذ مني جنيها واحدا ، وقال : إنت ما لكيش ذنب ياهانم دا نصيبي لوحدي ولازم أتحمله
حاولت معه بشتى الطرق ولكنه رفض في كبرياء وعزة نفس أصابتني بإنبها وإعجاب شديدين بهذا الرجل الصغير
وقلت عندما يئست منه : وماذا ستفعل ، قال في رجولة : أنا لي رب واللي خلقني مش هينساني .
ونزل من الميني باص وتابعته بنظري حتى تاه وسط الزحام وتحرك الميني باص ، وكأنه حرك في عقلي ألاف الأفكار وجعلها تدور في رأسي في صوت له أنين مزعج وعندها .....
تخيلت نفسي
تخيلت نفسي هذا الطفل وأنا أسير بين العربات أبيع المناديل وهذا يشتري مني وهذا يعرض عني وربما هذا يسبني وأنا المفروض أكون بهلوان لأبيع بضاعتي في الوقت الذي فيه قلبي ملئ بالأحزان والخوف عندما يهجم الليل وأنا منتهى أملي في الحياة لا أن أذهب إلى دريم بارك أو ألتهم وجبة الأطفال في كنتاكي أو ألعب في ماجدونالد أو ما شابه ولكن كل أملي أن يسمح لي أن أنام في الخرابة مع الفئران والكلاب وزملائي ممن ألقت بهم أقدارهم إلى الشارع
كيف سيكون شعوري ؟
ما هو كم الخوف وعدم الأمان الذي سأشعر به تلك الليلة ؟
وهنا فكرت .....
أين هؤلاء الأطفال من السيدة سوزان مبارك (حيث كنا وقتها قبل الثورة)
أليسوا أطفالا يستحقون الرعاية والإهتمام
أم إقتصرت الرعاية بالطفل على الأطفال ذو الملابس البراقة
المليارات التي أهدرت تحت مسمى المكتبات التي لا يقربها الأطفال تقريبا
ألم يكن عشر العشر من هذا المبلغ يكفي لحفظ آدمية هؤلاء الأطفال
ألا نشبع البطون الصارخة بالجوع ونكسي الأجساد المرتعدة من البرد قبل أن نجعلهم يقرأون
وكيف للبطن الفارغة أن تقرأ
كيف لا نستغل ملكات طفل مثل هذا يتسم بكل هذا الكم من الرجولة المبكرة واإعتزاز في نفسه ، ملكات إكتسبها من تراب الأرصفة وبرد الليالي القارص
ليت الوضع يتغير بعد الثورة ولا نرى تلك النماذج مرة أخرى
وكلما ألمت بي مشكلة ما أو عانت نفسي من جرح ما أذهب إلى هناك _وهذا بالطبع عندما أكون بالقاهرة_ أدخل المسجد وأصلي ركعتين تحية المسجد وما تيسر لي أو ما قدره لي الله سبحانه أن أصليه
ثم أجلس مرتكنة إلى أحد أعمدة المسجد أتلو أذكاري ثم أشخص ببصري إلى السماء مناجية ربي في نفسي
وعندها يبدأ الشعور بالسكينة يتسلل في نعومة إلى صدري حتى تستحيل معه رغبتي في مغادرة المكان
المهم .. أنني أجلس ما قدره الله لي ثم أخرج , ولأنني كما ذكرت سابقا ممن لا يتحلون بالصبر فإنني لا استطيع الإنتظار حتى أجد تاكسي ، ولكني أبدأ في السير حتى أصادف تاكسي لأذهب به إلى حيث أريد
وأثناء سيري وسط المقابر لمحت الأطفال ممن يسكنون المقابر وهم يلعبون ويلهون وكأنهم في أفخم النوادي ، مستمتعين بشدة بلعبهم ولهوهم وكأن المقابر قد تحولت إلى جنان غناء بالزهور والرياحين ، وقد نسوا من هم ومن يكونون آباءهم وكيف أن المجتمع يرفض بشدة مهنة آباءهم بل ويتشاءم منها
وعندها إحترت أأتخيل نفسي حفار القبور الأب أم الإبن الذي سينشأ في مجتمع وبيئة سترفضه بعد حين
وهنا لمعت الفكرة في ذهني فلم أختر الأب ولا الإبن بل إخترت شخصية ثالثة تماما وهي من تجمع بين آلام وآحلام الإثنين والزوجة الأم
وعندها
تخيلت نفسي ....
تخيلت نفسي زوجة لحفار القبور أو اللحاد كما يسمونه .. ذلك الذي نشمئز منه في أوقات وفي أوقات أخرى لا نجد سواه ليواري التراب جثة عزيز لدينا , وبالرغم من ذلك نكرهه ونمقته ونتشاءم منه وكأنه المسئول عن قبض الأرواح
وأنا بصفتي زوجة للحفار أعاني من آثار تعامله مع الأموات مما صبغه بوجه يحاكي وجوه الموتى في عدم الشعور والإحساس بما حوله
وأيضا تعامل الأحياء معه ونظرتهم إليه جعلوه يميل بعض الشئ إلى الشراسة والتحفز ولذلك لا أجد الراحة والسكينة معه
وبصفتي أم فأعاني الكثير والكثبر مع أبنائي في عدم قدرتي على تربيتهم كما أتمنى بسبب إختلاطهم بالمقابر وسكانها من الأحياء والأموات
كما أنهم يعودون من مدارسهم محملين بنظرة المجتمع التي يعاني منها أبوهم
وأيضا يمنعني من النوم تصور مصيرهم القادم عندما يصيرون شبابا وشابات ، فمن ذا الذي يقبل أن يزوج ابنه أو ابنته ليكون اللحاد جدا لأولادهم
ومن ذا الذي سمح أن يعمل لديه في شركته أو مصنعه ابن لحاد