ــــــــــــــــــــــ
خلال هذه الفترةِ حدثت أشياءُ لم يفهمها جيدًا، فعقبَ كلِّ اتصالٍ من صاحبِ الدارِ كانت تحدثُ أمورٌ ثلاثةٌ بشكلٍ روتينيٍّ:
أولُها إرسالُ المطابعِ للأعمالِ التي انتهت من طباعتِها، أو استلامُ مرتجعِ المكتباتِ بعد انتهاء مدةِ التعاقدِ، أو حضورُ أحدِ الكُتّابِ أو إحدى الكاتباتِ لاستلامِ ما تبقّى من أعمالِهم عقبَ نهايةِ المعارضِ أو العقودِ المبرمةِ بينهم وبين الدار.
لاحظ أيضًا أنَّ المكتباتَ غالبًا ما كانت تُعيدُ نفسَ الأعدادِ التي أخذتْها دون نقصانٍ، ممّا يعني أنها لم تَبِع أيَّ نُسَخٍ، مما جعله يشعرُ بالضيقِ ويتساءلُ:
هل نحنُ حقًّا أُمّةُ "اقرأ"؟
لماذا عزفَ الشبابُ عن القراءةِ؟
هل أصبحوا يستقون ثقافتَهم ومعلوماتِهم من التلفازِ والإنترنتِ فقط؟
هل فقدَ الكتابُ نكهتَهُ الخاصةَ ورونقَه؟ أَلَمْ يَعُدْ هناك من يشمُّ رائحةَ الورقِ وكأنها قهوةُ الصباح؟
ما سببُ هذا؟ ومَنِ المسئولُ عنه؟
أما الأمرُ الثاني فكان الأغربَ حقًّا؛ فعندما كان يحضرُ أحدُ الكُتّابِ أو إحدى الكاتباتِ كان ينتظرُ ذلك بحماسٍ وشغفٍ، فهو سيلتقي مع الكاتبِ شخصيًّا، وربما يحصلُ على توقيعِه أو حتى "سيلفي" معه بحضرةِ روايته أو ديوانِه، ولكن ما كان يحدثُ أمرٌ لا يجدُ له أيَّ تفسيرٍ؛ فمن يأتي إليه لا يبدو ككاتبٍ أو مبدعٍ، إنما… شخصٌ مُحطَّمٌ.
هناك أمرٌ لم يفهمه: ذلك الحزنُ والوجومُ الذي يعلو ملامحَ الجميعِ، وتلك النظرةُ التي تختزلُ كلَّ معاني العجزِ والانكسارِ.
كلُّ هذا لم يكن يُتيحُ له الحديثَ معهم أو حتى الحصولَ على أعمالِهم وتوقيعاتِهم.
كان هو شخصيًّا، وكقارئٍ، يشعرُ بالإهانةِ عندما يرى الكُتّابَ يحملون أعمالَهم داخل كراتين، نعم داخل كراتين، يحملونها على أكتافِهم أو بين أيديهم، ليذهبوا إلى حالِ سبيلِهم دون أن ينطقوا ببنتِ شفةٍ.
وذاتَ يومٍ أتت إحدى الكاتبات، وكمن سبقوها رأى في عينيها نفسَ تلك النظرةِ، حيث الحزنُ الممزوجُ بالذلِّ والانكسارِ، ولم تكن تردّدُ بصوتٍ خفيضٍ إلّا:
«حسبي الله ونِعم الوكيل… حسبي الله وكفى».
كانت تحملُ بين كفّيها كشفًا به الأعدادُ التي تمَّ طبعُها، وعددُها كما هو موضّحٌ مائتان وخمسون نسخةً شعريةً.
سلَّمها كريمٌ خمسَ كراتين تحتوي على مائتين واثنتين وأربعين نسخةً.
الفتاةُ بابتسامةٍ ساخرةٍ قالت: «على الأقلِّ هناك ثمانيُ نسخٍ تمَّ بيعُها».
كريمُ بخجلٍ وهو يمدُّ يدَه إليها بكيسٍ بلاستيكيٍّ: «بداخله ستُّ نُسَخٍ».
الفتاةُ بسخريةٍ موجعةٍ: «نعم، هذا صحيح، فهناك نسختان أهديتُهما لأختي وصديقتي».
تنحنحَ كريمٌ خجلًا، وهو يتوجَّهُ إليها بالحديثِ متسائلًا:
«أين الخلل؟».
الفتاةُ وقد فطنتْ لسؤالِه أغمضتْ عينيها ببطءٍ، وكأنها تستعيدُ حلمًا جميلًا:
«بدأتْ قصتي عندما كنتُ أنشرُ كلَّ ما أكتبُه من شعرٍ أو خواطرَ على صفحتي، وكان الجميعُ يثني على كتاباتي ويصفونني بالمبدعة. حتى ظهر الأستاذ (...) الكاتبُ وصاحبُ الدارِ، ليخبرني أنَّ ما أكتبه يستحقُّ أن يخرجَ إلى النور، وأنه دُرَرٌ نفيسةٌ تحتاجُ لمن يُصقِلُها ويُخرجُها للناسِ بشكلٍ جيّدٍ ولائقٍ، وأنني رائعةٌ، وبأنني قلمٌ نادرٌ يستحقُّ الانتشار.
وكما يقولون، الإلحاحُ كالسحرِ، ومع رغبتي بأن يكونَ لي كتابي الخاصُّ، طلبتُ منه التفاصيلَ، فحدَّد رقمًا كبيرًا للغلافِ والتدقيقِ والتنسيقِ، مع وعدِه لي بالمشاركةِ في كلِّ المعارضِ والمكتباتِ وحتى المواقعِ الإلكترونيةِ، ووعدَني بإقامةِ حفلاتٍ للتوقيعِ ومقابلاتٍ صحفيةٍ وتلفازيةٍ».
تنهدتْ وهي تقولُ بابتسامةٍ ممزوجةٍ بالألم:
«كلُّها وعودٌ ذهبتْ أدراجَ الرياح، ولحقتْ بالأحلامِ الموءودةِ قبلَ الولادة».
ساعدها كريمٌ بتحميلِ الكراتين داخل السيارةِ التي كانت تنتظرُها، متحاشيًا النظرَ إلى عينيها الممتلئتَين بالدموع.
ولم تكن قصةُ هذه الفتاةِ وحدها ما سبّب له الألمَ؛ فذاتَ يومٍ أتى إليه أحدُ الكُتّابِ يطلبُ ما تبقّى من نُسَخِ روايتِه، وعندما قام كريمٌ بجردِها وجدَها مائةَ نسخةٍ تقريبًا.
سأله بودٍّ وفضولٍ:
«هل حققتْ روايتُك النجاح؟»
الشابُّ وهو يتنهّدُ بأسى:
«لقد طبعتُ مائتين وخمسين نسخةً».
كريم: «هذا أمرٌ جيّدٌ بالنسبة لك ككاتبٍ شابٍّ، ولا شكَّ أنك جنيتَ بعض الأرباح، أليس كذلك؟»
الشابُّ بضحكةٍ ساخرةٍ تحملُ الكثيرَ من الوجع:
«كان العقدُ بيني وبين دارِ النشرِ يقضي بأنَّ النشرَ على حسابي، وتقومُ الدارُ بتجهيزِ العملِ من حيث الغلافُ والتدقيقُ والتنسيقُ، ثم المشاركةُ بالمعارضِ وطرحُه بالمكتباتِ، وكذلك عملُ الدعاية».
كريم: «وهل التزمتِ الدارُ بما وعدت؟»
الكاتبُ بحسرةٍ: «لقد تمَّ طبعُ الكتابِ بشكلٍ جيّدٍ، ولكن لم يتمَّ الالتزامُ بالدعايةِ أو طرحِ الروايةِ بالمكتبات».
كريمُ متسائلًا: «ولكن كيف ذلك وقد تمَّ بيعُ مائةٍ وخمسين روايةً؟»
الشابُّ بأسًى: «كلُّ ما تمَّ بيعُه كان عن طريقي أنا، لأصدقائي وبعضِ أقاربي، ومن أرادوا مجاملتي».
كريم: «وماذا عن ربحك من المبيعات؟»
الكاتبُ بحسرةٍ: «نسبةُ الدارِ كانت ثمانين في المائة من الأرباح، بينما نسبتي ككاتبٍ كانت عشرين في المائة فقط».
كريمُ مندهشًا: «هل يُعقَل ذلك؟ وأين كان عقلُك وأنت توقّع العقد!؟»
الكاتبُ وهو يهمُّ بالانصرافِ حاملًا ما تبقّى من نسخٍ:
«أنا من دفعتُ تكاليفَ النشرِ، وأنا من قمتُ بالترويجِ والبيعِ، والدارُ وحدَها من جنت الأرباحَ. حتى نسبتي العشرون في المائة أخذتُها نُسَخًا. وربما تجدُني ذاتَ يومٍ أفترشُها على الرصيف».
ضربَ كريمٌ كفًّا بكفٍّ، غيرَ مصدّقٍ ما تسمعُه أذناه من كوارثَ، متسائلًا بينه وبين نفسِه بصوتٍ مسموعٍ:
«تُرى، مَنِ المسئولُ عن هذا النصبِ والاحتيالِ باسمِ الأدب؟ ومَن يردعُ مثلَ هؤلاء؟ هل هذا هو وسطُ المثقفين؟ وهذه أفعالُ من ينتمون إليه؟!»
كان كريمُ قد أنهى تنظيمَ المخزنِ وترتيبَه، وقد آنَ الأوانُ للقراءةِ.
بدأ بالشعرِ الذي يعشقُه، فتناول خمسةَ دواوينَ مختلفةٍ ليتنقّلَ بينها وينهلَ من عبيرِها، وهنا كانت صدمتُه الأكبرُ؛ فلم يكن ما بين يديه ينتمي لأيٍّ من صنوفِ الأدبِ، بل ــ وإن جاز التعبيرُ ــ لم يكن سوى إسفافٍ وابتذالٍ يُعاقبُ عليه الدينُ والقانونُ.
عباراتٌ ركيكةٌ وجُملٌ خارجةٌ وأخطاءٌ إملائيةٌ فادحةٌ، لو أن هناك رقابةً لتمت محاكمةُ دارِ النشرِ والكاتبِ بل والمطبعةِ التي ساهمت بإخراجِ وطباعةِ ذلك، وما كانت لتسمحَ بخروجِ مثلِ هذه النفاياتِ لتُسمِّمَ العقولَ.
كالمجنونِ أخذ يتجوّلُ بين الرواياتِ والقصصِ، علّه يجدُ ما يستحقُّ القراءةَ، ولكن كلَّ محاولاتِه ذهبتْ أدراجَ الرياح؛ فالعناوينُ صادمةٌ، ولا علاقةَ لها بالمحتوى؛ فلا فكرَ ولا مضمونَ.
عبثًا حاولَ وحاولَ دون جدوى؛ فلا شيء بالداخلِ يستحقُّ ضياعَ ثوانٍ من أجلِه.
فمع هذا الكمِّ الهائلِ من المطبوعاتِ من جميعِ صنوفِ الأدبِ ــ روايةً وشعرًا وقصصًا قصيرةً ــ لم يجدْ سوى القليلِ ممّا يُدرَجُ تحت مسمّى الأدب.
لا شكَّ أنَّ وسطَ هذا الكمِّ من الابتذالِ والإسفافِ هناك أقلامٌ واعدةٌ وأفكارٌ مبدعةٌ وعقولٌ واعيةٌ، ولكنها تضيعُ وتغرقُ في هذا الوحلِ، ولا تأخذُ حقَّها من الانتشارِ.
وهنا تكمنُ المشكلةُ الحقيقيةُ: حيث يتساوى الإبداعُ بالإسفافِ، وتشيعُ التفاهةُ في المجتمعِ حتى يبدو وكأنَّ الجميعَ قد تسمّموا كما لو أنه تسمُّمٌ جماعيٌّ.
هنا أدركَ أنه أمامَ جريمةٍ مكتملةِ الأركانِ، جريمةٍ شاركَ فيها الكثيرون، بدءًا من المطبعةِ التي أخرجتْ هذا الإسفافَ، إلى دارِ النشرِ أو مَن يُمثِّلُها، حيث تلاعبَ الجميعُ بأحلامِ الشبابِ وخدَعُوهم.
أما الضحايا فهم من حلموا حُلمًا مشروعًا دون أن يُهيِّئوا له الأسبابَ أو يُعِدّوا له جيدًا، وكانت خطيئتُهم أنهم وضعوه بين أيدي من لا يُؤتَمنون على الأحلامِ.
أحلامٌ عوضًا عن أنها هَوَتْ بهم من عنانِ السماءِ إلى قاعِ الأرضِ، جرَّدتْهم من كرامتِهم، لتسحقَهم وتجرَّهم إلى القاعِ.
كذلك هناك جيلٌ كاملٌ، أو ربما أجيالٌ قادمةٌ، عليها أن تواجهَ هذه المأساةَ وتتعايشَ معها.
هنا أيقنَ أنه يجبُ عليه ألّا يقفَ مكتوفَ اليدين، نعم، يجبُ أن يقولَ "لا" مدوّيةً، وإلا فهو شريكٌ في تلك الجريمةِ مكتملةِ الأركانِ.
جمعَ ما ظنَّه أدبًا حقيقيًّا وإبداعًا يستحقُّ المحافظةَ عليه، وصعدَ به إلى الأعلى، قبل أن يعودَ أدراجَه للأسفلِ مرةً أخرى.
فتحَ صنبورَ المياهِ ووقفَ متفرّجًا، وهو يتأمّلُ المياهَ وهي تتدفّقُ وتنسالُ بين الأوراقِ وتغسلُها من الحبرِ الأسودِ، عساها تُطهّرُها من الدنسِ.
شاهدَ الأوراقَ وهي تطفو فوق سطحِ الماءِ مبتلّةً مهترئةً كالعباراتِ التي تحويها.
لم يكن يراها أعمالًا أدبيةً أو حتى أفكارًا قابلةً للتعاملِ معها، إنما كانت بنظرِه قنابلَ موقوتةً منزوعةَ الفتيلِ، قابلةً للانفجارِ في أيِّ زمانٍ أو مكانٍ، لتدمّرَ حُلمَ أمّةٍ كاملةٍ بالنهوضِ.
كانت المياهُ تزدادُ وترتفعُ حتى طالتِ الأرففَ العلويةَ، لتنهارَ بما تحمله، قبل أن يُغادرَ وهو يُخبِرُ المطافي بحدوثِ انفجارٍ في المجاري بأحدِ المخازنِ للنفاياتِ الورقيةِ.
كانت الدموعُ تنسَلُّ من مقلتيه لتكوي فؤادَه قبل وجنتَيه، وهو يشاهدُ أحلامًا تموتُ قبلَ الولادةِ، بينما المجرمُ ما زال حرًّا طليقًا يمارسُ جريمتَه بكلِّ شياكةٍ وأدبٍ.
لمَ لا؟ وهو ينتمي لصفوةِ المجتمعِ، أو كما يُطلِقون على أنفسِهم النُخبة.





































