في زِحامِ الحياةِ، تتقاطعُ وجوهٌ كثيرةٌ تمرُّ بنا كنسيمٍ عابرٍ في صباحٍ مزدحمٍ. نلتقي، نضحك، نتشارك، نظنُّ أنَّ القلوبَ صافيةٌ، وأنَّ الودَّ حقيقيٌّ، ثم تمضي الأيامُ لتكشفَ لنا وجوهًا لم نعرفْها من قبل، وجوهًا كانت تبتسمُ وهي تُخفي خناجرَها في الظلّ.
كم من قريبٍ جمعَنا به الدمُ ولم تجمعْنا به المودّةُ، وكم من صديقٍ شاركْنا معه الخبزَ والملحَ، ثم أظهرَ وجهَه الحقيقيَّ عند أولِ اختبارٍ. بعضُهم يقتربُ لا حبًّا فيك، بل طلبًا لمنفعةٍ أو مصلحةٍ مرجُوّةٍ، وبعضُهم يبتسمُ لأنَّ له غايةً، لا لأنَّ له قلبًا. هكذا تُمتَحنُ العلاقاتُ، فتسقطُ الأقنعةُ واحدًا تلوَ الآخر، ويظهرُ الصدقُ في زمنٍ غلبَ عليه الزيفُ.
كم من إنسانٍ صادقٍ بنى جسورًا من الثقةِ، ومدَّ يدَه بالخيرِ، وأحبَّ بصدقٍ نادرٍ دون زيفٍ أو خداعٍ، فإذا بالمقابلِ جحودٌ ونكرانٌ، وكأنَّ المعروفَ صار جرمًا في قاموسِ البعضِ. لكن لا تيأسْ يا صديقي، فكلُّ إناءٍ بما فيه ينضحُ، والقلوبُ لا تُخفي طويّتها مهما تجمّلت. إناءُ الحقدِ لا يفيضُ إلّا مرارةً، وإناءُ الطيبةِ لا ينضحُ إلّا خيرًا.
إنَّ من يعملُ بصدقٍ لا ينتظرُ ردَّ الجميلِ، لأنَّ عملَه عندَ الله محفوظٌ. فاللهُ لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملًا وأخلصَ نيةً وسلوكًا، حتى وإن خانتْه القلوبُ أو خذلتْه الأيامُ. وقد قالوا قديمًا: افعلِ الخيرَ وارمِه في البحر، فإن لم تعرفْه الأسماكُ فاللهُ يعرفُه.
وأنا أؤمنُ بالمنطقِ الذي يقول: افعلِ الخيرَ وانتظرِ الخيرَ، فكلُّ ما يُبذلُ بصدقٍ يعودُ إلى صاحبِه، ولو بعدَ حينٍ.
ومعَ ذلك، لا بدَّ من وعيٍ يحمي نقاءَك. لذا يا صديقي، عليك أن تبتعدَ عن العلاقاتِ السامّةِ التي تُهدِرُ طاقتك وتُضعِفُ روحَك. لا تُبذلْ جهدَك فيمن لا يرى قيمتَك، ولا تُجاهِدْ لإرضاءِ الجميعِ، فحتى الأنبياءُ ما استطاعوا أن يُرضوا كلَّ الناس، بل إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى اختلفتْ عليه البشريّةُ منذُ بدءِ الخليقةِ. كن كما أنت، صادقًا نقيًّا، لكنْ حكيمًا في عطائِك، فليس كلُّ من ابتسمَ لك يستحقُّ مكانًا في قلبِك.
عامِلِ الناسَ كما أنت، لا كما هم، ولكن لا تسمحْ لأحدٍ أن يُطفئَ نورَك أو يستغلَّ طيبتَك. فالنيّةُ الطاهرةُ لا تحتاجُ إلى تبريرٍ، واللهُ وحدَه يعلمُ خفايا القلوبِ ويُجازي عليها بما تستحقُّ.
وفي النهايةِ يا صديقي، ستتعلّمُ أنَّ العلاقاتِ الحقيقيّةَ لا تُقاسُ بطولِ العِشرةِ، بل بصدقِ الموقفِ ومروءةِ الفعلِ، وأنَّ الذين يبقون بعدَ الزوابعِ هم وحدَهم من يستحقّون أن يُسمَّوا أهلًا ورفاقًا.
ــــــــــــــــــــــــ
في نهايةِ المطافِ، لا يسعُني إلّا أن أقولَ بضميرٍ مرتاحٍ وقلبٍ واثقٍ: "فليذهبْ من يذهبْ، ويَبقَ من يَبقَ، مهما طالَ الأمرُ أو قصرَ، يذهبْ متصنِّعُ الودِّ، ويَبقَ صادقُ النيّةِ، وعلى نياتِكم تُرزقون".
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































