"حافظوا على تركيزكم فقد بدأت الإثارة والمتعة والتشويق"
ــــــــــــــــــــــ
بالكاد استطاعت أن تفتح عينيها.. مازالت تشعر بالضباب يحيط بعقلها من كل جانب، وتشعر بصداعٍ رهيب يكاد يفتك برأسها، خدر ودوار ورؤية مشوشة وكأنها تتهاوى من علو شاهق إلى بئرٍ سحيق، وبعد جهد ومحاولات مضنية استطاعت أن تميز أربعة أشخاص يرتدون المعاطف البيضاء ويتحدثون فيما بينهم، كانوا يستخدمون مصطلحات طبية لا تستطيع فهمها، وما أن شعروا بها تفتح عينيها حتى تهللت أساريرهم وعلت البسمة شفاههم و لاحقوها بأسئلتهم التي لم تتوقف.
هل ترين بوضوح؟ أجابت بصوت خافت: نعم.. ولكن الرؤية مشوشة قليلًا وغير واضحة المعالم.
سألها آخر: هل تذكرين اسمك ؟ وهل تعرفين من أنتِ وماذا حدث؟
قالت: نعم أنا حلم عابر، ولا أعلم أين أنا أو ماذا حدث؟ سألها آخر: ما هو آخر شيء تتذكرينه؟
أجابت: لا أدري.. ولكن آخر ما أذكره أنني كنت بكوفي شوب أتناول فنجانًا من القهوة و.. و.. هنا سالت من عينيها دموع عجزت أن تمنعها، فقد بدأت تتذكر ما حدث هناك.
تحدث أحد الأطباء موجهًا حديثه لباقي الأطباء قائلًا بصوتٍ واثق: لقد تعرضت لفقد مؤقت للذاكرة، يبدو أنها تعرضت لصدمة ما لم يتحملها عقلها؛ فمحت كل ما تعرضت له، وسيكون هذا مؤقتًا وسرعان ما ستستعيد ذاكرتها.
الأطباء وهم يغادرون: لا تقلقي ستكونين بخير، الحمد لله لقد نجوتِ.
خرج الأطباء من الغرفة وهم يتبادلون حديثهم الطبي بصوت بدأ يخفت كلما ابتعدوا عن غرفتها، لمحت صديقتها فرح تنزوي بأحد أركان الغرفة وتتقدم ناحيتها ببطء وهي تحاول جاهدة منع دموعها من النزول، مدت يدها إلى صديقتها تحتضنها وتضغط عليها وهي تقول: الحمد لله.. الحمد لله، ستكونين بخير.
وجود فرح معها جعلها تشعر بالأمان نسبيًا، جاهدت لتستعيد أنفاسها المتقطعة وتنهدت تنهيدة عميقة وهي تنظر بعيني فرح نظرة حائرة، حلم بصوت واهن: ماذا حدث؟ أنا لا أتذكر الكثير، وآخر ما أتذكره هو ذهابي منذ ساعات إلى الكوفي شوب، نعم يا
فرح لقد ذهبت ولكن للأسف لم ألتقيه، فقط وجدت أشياءه، أما هو.. وبدأت دموعها تسيل بغزارة.
فرح بلهجة مشفقة: لا تجهدي نفسك حبيبتي، اهدئي الآن. حلم: أخبريني ماذا حدث؟ أريد أن أعرف ماذا حدث؟
أرجوكِ أخبريني.
فرح باستسلام: حسنًا.. سأخبرك، ولكن لا تجهدي نفسك، سأخبرك بكل شيء، منذ ثلاثة أسابيع وأثناء عودتك بالحافلة ككل يوم، وقبل أن تصل الحافلة إلى الإشارة التي تتوقف عندها فقد السائق التحكم بعجلة القيادة بعد أن اكتشف أن الحافلة بلا مكابح، مما أدى إلى انقلابها ووقوع حادث كبير نتج عنه مصرع البعض وإصابات خطيرة للآخرين.
حلم بذهول: ماذا تقولين؟ هل قلت منذ أسابيع؟ لقد كنت هناك منذ ساعات.. أأنتِ مدركة لما تقولينه؟
فرح: اهدئي حبيبتي فأنت فاقدة للوعي منذ ثلاثة أسابيع، ولم يعد لك الوعي إلا الآن.
حلم: وماذا عن الشاب الذي أخبرتك عنه؟ لقد عرفت من هو.. إنه كاتب روائي اسمه أحمد مجدى، هل أنا أختلق هذا بظنك؟ لقد أخبرني النادل عنه، ورأيت كتبه وأوراقه وقلمه.. حتى نظارته، ولكن انتظري.. لقد أخبرني النادل أنه تعرض لحادث ومات، يا الله ماذا يحدث؟
تناولت فرح صحيفة ملقاة بجانب السرير وفتحتها على خبر بالخط العريض وناولتها لحلم التي قرأت عنوانًا يقول مصرع الكاتب والروائي أحمد مجدي إثر حادث أليم وهو بطريقه إلى دار النشر.
قرأت تاريخ الصحيفة.. كان يشير إلى الثالث من مايو.
فرح بصوت حزين: نعم يا حلم، أنتِ كنتِ بتلك الحافلة التي اصطدمت بسيارة الأستاذ أحمد مجدي.
بصوتٍ متحشرجٍ سألت حلم: بأي يوم نحن؟
ردت فرح: اليوم الرابع والعشرون من مايو، وقع الحادث منذ ثلاثة أسابيع.
حلم بذهول غير مصدقة: كيف؟ لقد ذهبت إلى هناك. فرح: حبيبتي.. إهدئي قليلًا، أنتِ كنتِ تنوين الذهاب بنفس
اليوم الذي وقع به الحادث ولكنكِ لم تذهبي.
حلم: إذًا كيف تفسرين معرفتي باسمه وما حدث له إن لم أذهب هناك؟
فرح: عندما كنتِ فاقدة للوعي كان الجميع هنا يتحدث عن الحادث وتفاصيله، وقد تردد اسم الكاتب أكثر من مرة، حتى أن التلفاز كان مهتمًا بالحادث وتفاصيله، ولقد لاحظ الأطباء أنك تتفاعلين عند ذكر اسمه وتتحرك عيناك، بل وكنتِ ترددين اسمه أثناء غيابك عن الوعي.
حلم شبه منهارة: لا أصدق.. لا أصدق، لقد كنتُ هناك.. لقد كنتُ هناك.
شريط طويل من الأحداث قد مر عليها بلا توقف، هل يعقل هذا حقًا؟
وهل ذهبتُ إلى هناك فعلًا أم لم أذهب؟ وذهابي إلى الكوفي شوب والنادل وما سمعته ورأيته هناك، هل كان وليد أوهامي وخيالاتي؟ وما تخبرني به فرح وتؤكده الصحف أيهما حقيقة؟ وأيهما خيال؟
أغمضت عينيها واستعادت ملامحه الهادئة ولحيته الخفيفة وابتسامته المميزة، تذكرت تلك الكلمة التي كان يرددها من خلف الزجاج، وتلك الوردة التي أشار لها بها، تذكرت أشياءه.. قلمه وأوراقه وكتابه ونظارته، أشاحت بوجهها بعيدًا تحاول طرد كل الأفكار والوساوس من عقلها، فلمحت بطرف عينيها تلك الصحيفة الملقاة على جانب السرير، تناولتها بيد مرتعشة وأوصال مرتجفة، فتحت الصحيفة على الصفحة التي تناولت الحادث وتفاصيله، لم تكن تبحث عن الخبر ولكنها كانت تبحث عن صورته مع الخبر، وعندما وقعت عيناها على صورته.. رأت نفس الملامح الهادئة التي تميزه مع تلك النظرة الغامضة التي تبدو من خلف زجاج نظارته، تبادر إلى ذهنها سؤال مفاجئ.. كيف تحفظ ملامحه عن ظهر قلب وهي لم تره من قبل؟
بل كيف رأته وعاشت أحداثًا وتفاصيلًا لم تحدث بالفعل كما تخبرها فرح وتؤكده كل الشواهد؟ لأنها وبحسب التسلسل الزمني للأحداث قد وقعت بعد وفاة أحمد مجدي.
شعرت بالعجز وعدم القدرة على استيعاب ما يحدث من حولها وما يعتمل داخلها، فها هو الصراع يتجدد بين ما تؤمن به وبين ما تؤكده كل الشواهد، حاوَلتْ بكل جهدٍ وبشتى الطرق
الهروب من ذلك الصراع بالنوم ولكنها لم تنجح فى ذلك، تناولت بعض المهدئات حسب إرشادات الطبيب.. ولكن هيهات أن تنجح كل المسكنات والمهدئات فى إخماد ذلك الضجيج برأسها، أشارت لفرح وقالت لها بصوتٍ خافتٍ وبعجزٍ واضحٍ: أكاد أجن.. فأنا لا أستطيع تصديق ما تخبرونني به، وأيضًا لا أستطيع إقناعكم بما أؤمن به، اقتربت فرح منها محاولة مساعدتها على النهوض وهي تقول بصوتٍ حانٍ: ما رأيك أن ننظر من النافذة؟ المنظر يبدو ساحرًا من هنا.
تحاملت حلم على نفسها واستندت على فرح حتى وصلا إلى النافذة، وبالفعل كان المنظر ساحرًا ويخطف الأبصار، حيث أن المشفى تحيط به الأشجار من كل جانب كما يَلوح من بعيد البحر بسحره وغموضه ومياهه الزرقاء، كان الوقت يقترب من غروب الشمس.
حلم: هل يمكننا أن نسير إلى هناك؟ أريد أن أتنفس الهواء بعيدًا عن رائحة الأدوية والمشفى.
فرح: حسنًا.. حاولي أن ترتدي ملابسكِ حتى أحصل على إذن من الطبيب، حملت كل منهما حقيبة اليد الخاصة بها واتجهتا صوب البحر، سارتا على الرمال، وكان المنظر ساحرًا بكل المقاييس بل ويخطف العقول والأبصار، حيث الموج يرتطم بالرمال وغروب الشمس بلونها الأحمر تحتضن السماء الزرقاء خلف الغمام، والسحب وهي تنعكس على صفحة الماء يشكلان لوحة بديعة،كل هذا كفيل بأن يجعل النفس تهدأ وتستعيد صفاءها
المفقود، لم يقطع هذا الهدوء الساحر الخلاب سوى صوت فرح: لا ينقصني سوى لوح من الشكولاتة ليكتمل هذا الجمال بعينيَ.
حلم: لكِ هذا.. فأنا دومًا أحتفظ ببعض الشكولاتة للأطفال كهدايا، أعقبت كلماتها بفتح حقيبتها لإخراج الشكولاتة لفرح وعندما التقطت لوح الشكولاتة اصطدمت أصابعها بورقة مطوية..
«يا الله.. رباااااااااه.. ما هذا؟»
كادت تصرخ بصوت مرتفع لتخبر فرح بشأن الورقة، ولكنها تمالكت أعصابها وأعطت صديقتها ما تريد وهي تطلب منها بابتسامة خفيفة أن تتركها قليلًا بمفردها، وما إن ابتعدت فرح حتى التقطت الورقة وبأصابعٍ مرتعشةٍ وجسدٍ مرتجفٍ بدأت القراءة من بداية الكلمات «أعلم أنك ستأتين» حتى «أحبك وكفى» توقيع.. «أحمد مجدي.»
كادت تفقد وعيها، ما هذا؟ وكيف يعقل ذلك؟ أرادت أن تصرخ.. هل جننت؟
أغمضت عينيها محاولة استيعاب ما يحدث وهي تردد رفقًا يا الله، وعندما فتحت عينيها لمحت زحاجة عصير فارغة ملقاة فتناولتها بهدوء، أخرجت الورقة وكتبت عليها.. «نعم لقد أتيت وعلمتُ أنك موجود، وربما ليس مقدرًا لنا أن نلتقى هنا، أحبك وكفى» وذيلتها بتوقيعها «حلم عابر»، ثم طوت الورقة ووضعتها بالزجاجة وألقتها بالماء الذي احتضنها وأخذ يتلاعب بها مبتعدًا، لتكتمل الصورة بانعكاس قرص الشمس الغاربة على الزجاجة ليشكل شعاعًا يصل الأرض بالسماء.
يتبع





































