كانت رهف قد حددت وجهتها مسبقًا، فهي ستذهب إلى كبرى المكتبات للحصول على أعمال الكاتب أحمد مجدى، ومن ثَم سوف تتوجه إلى مقر الصحيفة الأقرب لموقعها للحصول على كل الأعداد التي تناولت مسيرة الكاتب منذ بدايته وحتى وقوع الحادث، كان هذا سيناريو قد تم تحديده مسبقًا ويبدو أنه سهل التنفيذ خاصة مع شخصية منظمة ودقيقة مثل شخصية رهف، وبالفعل كانت مهمتها تسير كما أرادت لها، فقد اشترت معظم مجموعات الكاتب القصصية ودفعت ثمنها وتركتها لتعود لها بعد الحصول على الصحف.
كان الاتفاق بين رهف وفرح هو أن يتقابلا بعد انتهاء فرح من مهمتها بالكوفى شوب، فجأة شعرت رهف بالخوف المشوب بالقلق، وقفت فجأة لبضع ثوانٍ قبل أن تكمل مسيرها وهي تنفض عن نفسها ذلك الهاجس الذي انتابها فجأة، ومن سيراقبني ولماذا؟ رباه.. ماذا حدث لي؟ هل أصبحت أعاني من الهلاوس مما يحدث؟
استقلت سيارة أجرة إلى مقر الصحيفة وقدمت طلبًا لمسئول الأرشيف بأرقام الأعداد وتواريخ صدورها، وسددت الثمن وما هي إلا دقائق وكانت الأعداد بحوزتها، بقلق اتصلت بفرح التي أخبرتها أنها في طريقها إليها، أعطتها عنوان المكتبة ليلتقيا هناك.
عندما وصلت رهف إلى المكتبة لمحت فرحًا التي ما لبثت أن أشارت لها، حملت الاثنتان الكتب والصحف وتوجهتا إلى السيارة لتستقلاها وتنطلقا نحو المستشفى،
فرح: هل لاحظتِ تلك السيارة السوداء التي تسير خلفنا منذ انطلقنا؟
رهﻒ: أرجوكِ لا تؤكدي شكوكي.
فرح بتساؤل: ماذا تقصدين بقولك هذا؟
رهف: كان هناك رجل يرتدي سترة بنية يتابعني من بعيد، تقريبًا تواجد في كل الأماكن التي ذهبت إليها فهل هذا من قبيل المصادفة؟
فرح: تلك السيارة التي تتبعنا منذ انطلقنا كانت بالأساس خلف سيارة الأجرة التي أقلتكِ.
رهﻒ: ولكن كيف سنتأكد من كونها تتبعنا وأنها ليست مصادفة؟
فرح: راقبيني وانظري ماذا سأفعل وسنتأكد من شكوكنا، سأدلف الآن إلى الشارع الجانبي القادم وسأتوقف ولنرى ماذا سيحدث؟
مرت ثواني وهما متوقفتان بالشارع الجانبي قبل أن تبرز السيارة السوداء ويتوقف قائدها فجأة وقد ألجمته المفاجأة عندما وجد سيارة رهف متوقفة.
هنا تأكدت رهف وفرح من شكوكهما وأن تلك السيارة تتبعهما مما أثار خوفهما وقلقهما البالغ؛ فانطلقتا بأقصى سرعة باتجاه المشفى، ما إن وصلتا للمشفى حتى توجهتا مباشرة إلى غرفة حلم والتي كانت منهمكة لدرجة أنها لم تنتبه لدخول فرح ورهف حتى سمعتهما تتنهدان بعمق ويقولان لها: هل أنتِ مستعدة للمزيد من المفاجآت؟
حلم: أعتقد أن ما اكتشفته يفوق ما لديكما كثيرًا، ولكن دعانا لا نستبق الأحداث.
جلس الثلاثة بمواجهة بعضهم البعض لتقول فرح: من منا ستبدأ بالحديث أولًا؟
حلم: هاتِ ما عِندك أنتِ أولًا يا رهف.
أعقبت قولها بإحضارها دفترًا وقلمًا وهي تقول لا يجب أن نغفل عن أية تفصيلة ولو صغيرة، فربما تكون هي مدخلنا لحل اللغز، تنهدت رهﻒ بعمق وهي تقول:
مرت مهمتي بسلام لولا ذلك الشخص الذي كان يلاحقني أينما ذهبت، والذي استمرت ملاحقته لي حتى بعد أن استقليت السيارة مع فرح، وغير هذا فقد أحضرت كل ما يتعلق بالكاتب من أعماله أو ما نُشر عنه.
قالت حلم بقلق: وهل تأكدتما أن السيارة كانت تتبعكما وأنها ليست مصادفة؟
روت لها فرح ما قامت به وتأكدهما من ذلك، وهنا طلبت حلم من رهف أن تنظر من النافذة لترى إنكانت السيارة متواجدة بالأسفل أم لا؟
بالفعل توجهت رهف إلى النافذة وأطالت النظر قليلًا قبل أن تعود وهي تقول أنها لا ترى ما يثير الشك وأنها لا ترى أي أثر للسيارة.
حلم: توقعت هذا.
فرح: ماذا تقصدين بقولك بأنك كنتِ تتوقعين هذا؟
حلم: من كان يراقبكما يعلم بوجودكما هنا وبالتأكيد هناك من يراقب بدلًا منه الآن، ولكن دعانا من كل هذا وهيا أخبرينا يا فرح ماذا يوجد بجعبتك لتخبرينا به؟
فرح: أنصتا إليَ وخذا نفسًا عميقًا قبل أن أخبركما بالمفاجأة الكبرى التي ستبهركما بكل تأكيد.
حلم بنبرة هادئة وواثقة: هل ستخبرينا بأن الأستاذ أحمد مجدي له شقيق؟
رهﻒ بذهول: هل قلتِ شقيق؟
بينما اكتست ملامح فرح بالذهول وهي تقول: وكيف عرفتِ ذلك؟ وهل عرفتِ أن الأستاذ أحمد كان كفيفًا وأنه دومًا يكون معه مرافق للكتابة؟
حلم: جاء الآن دوري لأبهركما حقًا، فهلا أتيتما قربي وأوليتماني كامل وعيكما وانتباهكما؟
كان هذا كفيلًا لتصبح فرح ورهف أسيرتين لحلم وكأنهما منومتين.
هنا قامت حلم بفتح اللاب توب وضغطت على صورة لتكبيرها وقد كتب تحتها «صورة نادرة تجمع بين الكاتب الروائي أحمد مجدى وشقيقه الرسام العالمي المقيم بفرنسا أدهم مجدي» ثواني مرت كالدهر والصورة قيد التحميل حتى خيل إليهما أن الوقت قد توقف بهما، وعندما لاحت لهما الصورة كادتا أن يغمى عليهما من فرﻁ الذهول، فما رأياه كان شيئًا يفوق الخيال، فهما لم يكونا فقط شقيقين ولكنهما كانا توأمين متطابقين بكل شيء، وما يميز بينهما فقط كانت تلك النظارة السوداء التي يرتديها الكاتب أحمد مجدي.
لحظاتٌ ثقيلة من الصمت مرت على الجميﻊ قبل أن تقول فرح: ولكن من فيهما؟
رهﻒ: ماذا تقصدين بمن فيهما؟
هنا توجهت الاثنتان بأنظارهما نحو حلم بنفس الوقت وهما تسألان نفس السؤال من فيهما؟ وقبل أن تنطق حلم بحرف واحد لمعت عينا فرح وهي تقول: أنا من ستجيب على هذا السؤال.
رهﻒ: وكيف لكِ أن تعلمي؟
فرح وكأنها تعد لمشهد تمثيلي وضعت الطاولة مقابل النافذة وأمامها مباشرة وضعت كرسيًا، ومن الجهة اليسرى وضعت كرسيًا
آخرًا ومن ثم أشارت للنافذة وهي تقول: سنفترض أن هذه الطاولة هي تلك الطاولة بالكوفي شوب وأن النافذة هي الزجاج الأمامي الذي تمر من أمامه الحافلة التي تُقل حلم، كانت رهف تنصت بعمق بينما كانت حلم تنظر إلى النافذة وكأنها تستعيد المشهد بالكامل منذ البداية،
هنا قالت فرح: عندما سألت النادل عن الكرسي الذي يجلس عليه الكاتب أحمد مجدى أشار إلى كرسي الزاوية اليسرى وهو من حيث موقع الطاولة بالكوفي شوب يأخذ زاوية مخفية لا يرى من يمر بالواجهة وكذلك لا يراه من يمر من الخارج بينما كان شقيقه هو من يجلس بالكرسي المقابل للواجهة الزجاجية.
هنا شهقت رهﻒ قائلة: إذًا من كان ينظر إلى حلم وكانت تراه يبتسم لها ليس هو.
فرح: كان منذ البداية أدهم وليس أحمد.
بذهول التفتت رهف ناحية حلم التي كانت مازالت تنظر إلى النافذة وبعض دموع فشلت بالاحتفاﻅ بها بين مقلتيها قد أفلتت لها العنان..
فرح: هل هى دموع الفرح؟
حلم وهي تغالب عبراتها: لا أدري.. لا أدري.. حقًا لا أدري. رهﻒ: ماذا تقصدين بذلك؟
حلم: وما أدراني أن هذا حقيقيًا وينتمي لهذا العالم؟ وما أدراني أنني لا أحلم بذلك؟ حتى أنني أخشى أن أفيق فلا أجدكما معي وأصحو لأجد نفسي نائمة أو مخدرة.
فرح: حبيبتي هذا حقيقي وأنا معكِ ورهف معكِ، ونحن من رأينا وشاهدنا ذلك، لستِ وحدكِ يا حلم ولن تكوني وحدك، وسنتأكد من كل حرف وكلمة بأنفسنا.
رهﻒ: ماذا تقصدين بذلك؟
فرح سنذهب بأنفسنا إلى أدهم مجدي ونرى ما سيكون.
حلم: نذهب إليه.. كيف؟ ولماذا؟
رهﻒ: كيف هذه سهلة ويسيرة، بالتأكيد عنوان كاتب شهيرسيكون متاحًا لنا معرفته عن طريق الصحف.. وهي معنا أو عن طريق دليل الهاتف.
فرح: أما لماذا؟ فحتى نقطع الشك باليقين.
حلم: بالتأكيد سنجد العزاء بالصحيفة وبه عنوان المنزل. فرح: وأنا سأحضر دليل الهاتف وأبحث وسنرى، بعد دقائق
كان بين أيديهم عنوان الكاتب أحمد مجدي والذي سجلته رهف
بورقة وهي تقول: ﭬيلتهم بضاحية المعادي وإذا تحركنا الآن سنصل ليلًا.
حلم: سنذهب ونرى الﭭيلا ولكن لن ندخل. فرح: وما فائدة ذهابنا إن لم ندخل ونرى الرسام؟
حلم: هذا شرطي.. سنذهب ونحاول جمع بعض المعلومات ولكن علينا أولًا جمع أشيائنا ووضعها بالسيارة، فقد سمح ليَ الطبيب بالخروج اليوم والمتابعة حسب الحاجة.
فرح ورهﻒ وهما تجمعا أغراضهما: حسنًا.. كما تحبين.
تولت فرح القيادة بجانبها رهف بينما جلست حلم بالمقعد الخلفي تتأمل الشوارع والمارة وصورة أدهم لا تفارقها، نفس الملامح وتلك الابتسامة وكلماته التي كان يهمس لها بها.. «كنتُ عاهدتُ قلبﻲ يومًا أن يظل مغلقًا ولا أعرضه لأي جُرح يﺆذيه، وما كنت لأقوى على صدمات تقتل ما بقي من روحي، ولكن عندما دخلتَ عالمي نقضْتُ ذلك العهد وأصبحتَ أميرًا على عرﺵ قلبﻲ» .. كلمات رددتها حلم بينها وبين نفسها وهي شبه غائبة عن الوعي، حتى سمعت صراخ رهف.. أين ذهبتِ؟ نحن هنا فردت بابتسامة: أنا هنا.. أنا هنا، ولكن أين عساه هو؟
بدأت ضاحية المعادي تلوح بالأفق وتظهر بعض الﭭيلات المتناثرة هنا وهناك، وبعض المباني الشاهقة والكثير من السيارات الفارهة بذلك الحي الراقي قبل أن يدخلوا إلى شارع طويل يبدو مظلمًا، ورهف تقول: هنا يجب أن ننظر جيدًا فهذا هو الشارع، للحظات خيل لحلم وكأنها أتت إلى ذلك الشارع من قبل حتى أنها وجدت نفسها تلقائيًا توجه فرح وهي تقول: تقدمي إلى الأمام مباشرًة.
وما هي إلا لحظات حتى بدا لهم سور طويل تحيط به الأشجار المتناثرة هنا وهناك وبعض النباتات، وفجأة شق سكون المكان صوت نباح كلب هز الأرجاء، هنا انتفضت حلم وهي تصرﺥ قائلة وهي تشير لفرح: كنت هنا.. ذلك هو المكان، لقد أخبرتك بهذا.. أقسم أنني كنت هنا.
أوقفت فرح السيارة وغادرتها تتبعها رهف التي فتحت الباب لحلم وهي تحاول تهدأتها، وإذ فجأة يشق سكون الليل والظلام سيارة ﭬانكبيرة تتوقف فجأة لينزل منها ثلاثة رجال أشداء وكأنهم لاعبو كمال أجسام يجتذبون حلم وفرح ورهف، ويضعونهم داخل الﭭان لتنطلق السيارة بسرعة وهي تشق سكون الليل الذي لا يقطعه سوى صرخات الثلاثة وهن يقاومن بكل قوتهن لمحاولة التخلص من تلك القبضات التي ألقتهن بسهولة ويسر وكأن شيء ما لم يحدث.
يتبع





































