في لحظات الصمت، حين يخفت ضجيج الحياة ويخلو القلب من كل شيء إلا الحنين ورماد الذكريات، تصعد إلى السطح كل تلك التفاصيل التي حسبناها انطفأت.
أصواتٌ قديمة، وجوهٌ عبرت، مواقف كنّا نظن أننا تجاوزناها، لكنها لا تزال هناك... باقية لا تموت، ساكنة، تُمسك بأطراف القلب وتوشك أن تُسقطه من علوّه.
نتوقّف فجأة، نتأمّل طويلًا، ونتساءل:
كيف وصلنا إلى هنا؟
كيف مر الزمن؟ ونحن مازلنا عالقين في المنتصف، عاجزون عن العودة إلى الخلف، خائفون من التقدم إلى الأمام.
نُحمّل الماضي وزر الألم كله، نُدينه على الأخطاء، على القرارات المتسرعة، على من خذلونا، وعلى من لم يكونوا كما تمنّينا.
نتمنّى لو عاد بنا الزمن لحظة، فقط لحظة، لنُغيّر، لنهرب، لنعتذر، لنختار شيئًا آخر.
عين ترنو إلى المستقبل، تبحث عن بقايا ضوء، وأخرى شاخصة نحو الماضي من نافذة اللوم والعتاب، لا ترى سوى العتمة.
الخطى تتعثر، والأفكار تتبعثر، والروح ترتجف في صمت، والأوصال كأنها تُقيدها يد خفية.
فنغدو أسرى...
أسرى بلا قيد، بلا قضبان.
أسرى لذكرياتٍ تسكننا أكثر مما نسكنها، لندمٍ يستنزفنا من الداخل، لصوت خافت يقول لنا في كل مساء:
"لقد فات الأوان..."
ونسأل أنفسنا في وهن:
هل من خلاص؟
هل من أمل؟
وتأتي الإجابة، لا من الخارج، بل من أعماق الفؤاد الذي لم يمت بعد:
نعم... هناك أمل، طالما في الصدر نبض، وفي الروح نافذة تُطل على نور الفجر البعيد.
كل ما نحتاج إليه هو لحظة شجاعة، لحظة نُدرك فيها أن الماضي مهما كانت قسوته، لا يملك حقَّ مصادرة مستقبلنا.
أخطاؤنا لا تُلغي أحقيّتنا في الحياة.
الخذلان لا يُفقدنا القدرة على الوقوف في شموخ.
السقوط لا يمنعنا من المحاولة مرة تلو الأخرى للوقوف من جديد، ولو ارتجفت خطانا.
التقدَّم... ولو بخطوة حتى إن كانت بطيئة، حتى إن كنا لا نرى الطريق كاملًا.
علينا ألا نلتفت للخلف، يجب أن ندع الماضي يمضي، نتركه يأخذ معه ما يجب أن يُنسى.
علينا أن تمسّك بما تبقى فينا من نور، لنثق أنّ القادم، برحمة الله، أجمل بكثير.
"ومن أحسن ظنه بالله لا يخيب"