ارتفع رنين هاتفه بلا توقُّف، كانت زوجته على الطرف الآخر تذكِّره بزيارة أختها مع زوجها القادم في عُطلة من الخليج، بحركةٍ عفويةٍ تحسَّس جيب قميصه الداخلي، ليتأكد من وجود الألف جنيه التي استدانها من زميله بالعمل، أخبر زوجته ألَّا تقلق، وأنه لن ينسى شيئًا وسيرفع رأسها أمام زوج شقيقتها، توقَّف عند الجزار وما إن هدأت حركة البيع حتى توجَّه إليه يحدِّثه في ود، ليخبره أنه لديه عزومة ويريد كيلو ونصف من اللحم الأحمر الناعم مع رجاء ببعض العظم والدهن خارج الميزان لزوم شوربة الطبخ وشوربة الأرز، ما إن أصبح اللحم بين يديه حتى توجَّه نحو الخضري لشراء مستلزمات الطبخ من بصل وطماطم وملوخية وبطاطس، توجَّه بعد ذلك للبقال ليشتري الأرز والمرقة والمعكرونة والشعرية، بينما هو منهمك مع البقال لمح بطرف عينيه رجل في نهاية عقده الخامس يقف بجوار مشترواته، في البداية لم يُعِر للأمر أي انتباه، ما كاد يعود للشراء حتى انتابه القلق، فهو قد أنفق كل ما يملك على هذه العزومة، حانت منه التفاتة ثانية نحو أغراضه، ليرى الرجل ما زال يقف بجانبهم، كانت تقاسيم الرجل لا تُوحي بشيء مريب، فهو يبدو وقورًا تكسو ملامحه الطيبة، كما أن ملابسه تدل أنه من الطبقة المتوسطة، ما إن دفع الحساب واستدار يجمع أغراضه وأثناء تفقُّدها اكتشف غياب كيس اللحم، شعر بالتوتر والغضب في آنٍ واحد، التفت في جميع الاتجاهات ليرى مَن فعل هذه الفعلة النكراء، من بعيدٍ لاح له الرجل وهو يمشي مهرولًا، جمع أكياسه وسار بخُطى سريعة محاولًا اللحاق به، بعد عدة شوارع كان قد اقترب منه، ما إن أصبح قُربه حتى وضع يده على كتفه مستوقفًا إيَّاه، توقَّف الرجل وهو يرتعش، استدار ليصبح في مواجهته وما إن نظر في عينيه حتى وجد الرجل وقد اغرورقت عيناه بالدموع، كاد يسبُّه ويجمع الناس ليخبرهم عن فعلته الشنعاء، لكنه ولسببٍ لا يدري ما هو وجد نفسه يتحدث بصوتٍ أقرب إلى الهمس قائلًا:
- ألَا تخجل وأنت في عمرك هذا من السرقة؟ مَن كان في مثل عمرك عليه أن يلزم العبادة وأن يسأل الله حُسن الخاتمة.
كان الرجل ينظر إلى الأرض في خجل مطاطئ الرأس وهو يرجوه أن يأخذ اللحم ولا يفضحه، ليقول له:
- هل أدركت الآن عواقب فعلتك هذه؟
الرجل: صدِّقني، هذه أول مرة لي ولم يسبق لي أن فعلت ذلك.
أردف يقول في صوتٍ متهدِّج:
- أقسم بالله أنَّ اللحم لم يدخل بيتي منذُ عيد الأضحى الفائت عندما تصدَّق علينا مَن ذبحوا أضحيتهم، ليقول له:
- وهل هذا مبرر للسرقة؟ هل تدخل إلى جوفك طعامًا حرامًا؟
الرجل: لو كان الأمر يقتصر عليَّ لاكتفيت بالزيت والملح أو كنت مِتُّ جوعًا قبل أن أفعلها.
استطرد قائلًا في حزن: أنا موظف على المعاش وراتبي كان يكفي ويزيد، لكن بعد خروجي على المعاش فقدت ثلثيه، وقد مات ولدي وترك في رقبتي خمسة أولاد وبنات وأمهم، والله لا يوجد في البيت أي طعام.
قال هذا لتنهمر دموعه بغزارة ليشاركه البكاء حتى أصبح الجميع يراقبهما، وقد انهمرت دموعهم بلا توقُّف، ما إن هدأ حتى قال له وهو يربت على صدره:
- لا تقلق، سوف يعينك الله عليهم، أمَّا هذا اللحم وكل لوازمه فهو للأيتام في بيتك.
حاول الرجل الانصراف دون أن يأخذ شيئًا، لكنه أقسم عليه أن يأخذ كل شيء، وأنَّ هذا رزق ساقه الله إليه.
غادر الرجل وهو يدعو له وفي طريقه للمنزل قتله التفكير، تُرى ماذا يخبر زوجته؟ هل يقول لها إنه نسيَ أو يخبرها أنه لم يجد لحمًا عند الجزار، يمكنه أن يخبرها أنه فَقَد المال، حدَّث نفسه قائلًا:
- عندما يأتي الغد سيجد حلًّا لهذا الأمر، يمكنه أن يستدين من زميل آخر أو حتى يبيع هاتفه.
لا يدري كيف وصل إلى منزله يجرُّ قدميه واحدةً تلو الأخرى، ما إن فتح الباب بوجهٍ ممتقَع ومشاعر متناقضة ما بين حبه لفعل الخير وخذلان زوجته حتى سمع ضحكات زوجته التي استقبلته في ودٍّ وهي تخبره أنَّ والدها وأخاها بالداخل، رحَّب بهما في حرارة وجلس بجوار زوجته يسألهم عن أحوالهم، وبطرف عينيه لمح قفصًا ممتلئًا بالدجاج والحمام وكيس أبيض كشف ما بداخله من لحوم مع أكياس الفاكهة والخضار، قبل أن يسأل عن كل هذا ولمن، كان والد زوجته يهنئه بدخول شهر رجب، بينما زوجته تشير بفخر نحو الأغراض قائلةً في حب:
- أبي وأخي أحضرا الموسم كعادتهما كل عام.
توجَّه لهما بالتهنئة وفي سره كان يردِّد في يقين:
- "سبحان مَن وسِعت رحمته كل شيء".
تمَّت
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































